الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ﴾، أبْهَمَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ هَذا الَّذِي يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ ويَكْرَهُونَهُ؛ لِأنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بـِ ”ما“ المَوْصُولَةِ، وهي اسْمٌ مُبْهَمٌ، وصِلَةُ المَوْصُولِ لَنْ تُبَيَّنَ مِن وصْفِ هَذا المُبْهَمِ إلّا أنَّهم يَكْرَهُونَهُ. ولَكِنَّهُ بَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّهُ البَناتُ والشُّرَكاءُ وجَعْلُ المالِ الَّذِي خَلَقَ لِغَيْرِهِ، قالَ في البَناتِ: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَناتِ﴾ [النحل: ٥٧]، ثُمَّ بَيَّنَ كَراهِيَتَها لَها في آياتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى﴾ الآيَةَ [النحل: ٦١] . وَقالَ في الشُّرَكاءِ: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٠٠]، ونَحْوَها مِنَ الآياتِ. وبَيَّنَ كَراهِيَتَهم لِلشُّرَكاءِ في رِزْقِهِمْ بُقُولَهُ: ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكم هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكم فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهم كَخِيفَتِكم أنْفُسَكم كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: ٢٨]، أيْ: إذا كانَ الواحِدُ مِنكم لا يَرْضى أنْ يَكُونَ عَبْدُهُ المَمْلُوكُ شَرِيكًا لَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ في جَمِيعِ ما عِنْدَهُ؛ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ الأوْثانَ شُرَكاءَ لِلَّهِ في عِبادَتِهِ الَّتِي هي حَقُّهُ عَلى عِبادِهِ ! وبَيَّنَ جَعْلَهم بَعْضَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ لِلْأوْثانِ في قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبًا﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: ١٣٦]، وقَوْلِهِ: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ [النحل: ٥٦]، كَما تَقَدَّمَ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الحُسْنى﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةِ: أنَّ الكُفّارَ يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمُ الكَذِبَ؛ فَيَزْعُمُونَ أنَّ لَهُمُ الحُسْنى، والحُسْنى تَأْنِيثُ الأحْسَنِ، قِيلَ: المُرادُ بِها الذُّكُورُ؛ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَهم ما يَشْتَهُونَ﴾ (p-٣٩٤)[النحل: ٥٧]، والحَقُّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ: أنَّ المُرادَ بِالحُسْنى: هو زَعْمُهم أنَّهُ إنْ كانَتِ الآخِرَةُ حَقًّا فَسَيَكُونُ لَهم فِيها أحْسَنُ نَصِيبٍ كَما كانَ لَهم في الدُّنْيا. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ الأخِيرِ دَلِيلانِ: أحَدُهُما: كَثْرَةُ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ المُبَيِّنَةِ لِهَذا المَعْنى؛ • كَقَوْلِهِ تَعالى عَنِ الكافِرِ: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾ [فصلت: ٥٠]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لَأجِدَنَّ خَيْرًا مِنها مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٦]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا ووَلَدًا﴾ [مريم: ٧٧]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا نَحْنُ أكْثَرُ أمْوالًا وأوْلادًا وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبإ: ٣٥]، • وقَوْلِهِ: ﴿أيَحْسَبُونَ أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهم في الخَيْراتِ﴾ الآيَةَ [المؤمنون: ٥٥]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. والدَّلِيلُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ أتْبَعَ قَوْلَهُ: ﴿أنَّ لَهُمُ الحُسْنى﴾ [النحل: ٦٢]، بِقَوْلِهِ: ﴿لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النّارَ﴾ الآيَةَ [النحل: ٦٢]، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلالَةً واضِحَةً عَلى ما ذَكَرْنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. والمَصْدَرُ المُنْسَبِكُ مِن ”أنَّ“، وصِلَتُها في قَوْلِهِ: ﴿أنَّ لَهُمُ الحُسْنى﴾ [النحل: ٦٢] في مَحَلِّ نَصْبٍ، بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ الكَذِبَ، ومَعْنى وصْفِ ألْسِنَتِهِمُ الكَذِبَ قَوْلُها لِلْكَذِبِ صَرِيحًا لا خَفاءَ بِهِ. وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦]، ما نَصَّهُ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى وصْفِ ألْسِنَتِهِمُ الكَذِبَ ؟ قُلْتُ: هو مِن فَصِيحِ الكَلامِ وبَلِيغِهِ، جَعَلَ قَوْلَهم كَأنَّهُ عَيْنُ الكَذِبِ ومَحْضُهُ؛ فَإذا نَطَقَتْ بِهِ ألْسِنَتُهم فَقَدْ حَلَّتِ الكَذِبَ بِحِلْيَتِهِ، وصَوَّرَتْهُ بِصُورَتِهِ. كَقَوْلِهِمْ: وجْهُها يَصِفُ الجَمالَ، وعَيْنُها تَصِفُ السِّحْرَ. اه. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النّارَ وأنَّهم مُفْرَطُونَ﴾، في هَذا الحَرْفِ قِراءَتانِ سَبْعِيَّتانِ، وقِراءَةٌ ثالِثَةٌ غَيْرُ سَبْعِيَّةٍ. قَرَأهُ عامَّةُ السَّبْعَةِ ما عَدى نافِعًا: ﴿مُفْرَطُونَ﴾، بِسُكُونِ الفاءِ وفَتْحِ الرّاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ المَفْعُولِ؛ مِن أفْرَطَهُ. وقَرَأ نافِعٌ بِكَسْرِ الرّاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ؛ مِن أفْرَطَ. والقِراءَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِسَبْعِيَّةٍ بِفَتْحِ الفاءِ وكَسْرِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مِن فَرَّطَ المُضَعَّفِ، وتُرْوى هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ. وكُلُّ هَذِهِ القِراءاتِ لَها مِصْداقٌ في كِتابِ اللَّهِ. أمّا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: ﴿مُفْرَطُونَ﴾، بِصِيغَةِ المَفْعُولِ فَهو اسْمُ مَفْعُولٍ أفْرَطَهُ: إذا (p-٣٩٥)نَسِيَهُ وتَرَكَهُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلَيْهِ؛ فَقَوْلُهُ: ﴿مُفْرَطُونَ﴾، أيْ: مَتْرُوكُونَ مَنسِيُّونَ في النّارِ. ويَشْهَدُ لِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاليَوْمَ نَنْساهم كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذا﴾ [الأعراف: ٥١]، وقَوْلُهُ: ﴿فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا إنّا نَسِيناكم وذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ﴾ الآيَةَ [السجدة: ١٤]، وقَوْلُهُ: ﴿وَقِيلَ اليَوْمَ نَنْساكم كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا ومَأْواكُمُ النّارُ﴾ الآيَةَ [الجاثية: ٣٤]، فالنِّسْيانُ في هَذِهِ الآياتِ مَعْناهُ: التَّرْكُ في النّارِ. أمّا النِّسْيانُ بِمَعْنى زَوالِ العِلْمِ: فَهو مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤]، وقالَ: ﴿قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي في كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى﴾ [طه: ٥٢] . وَمِمَّنْ قالَ بِأنَّ مَعْنى: ﴿مُفْرَطُونَ﴾، مَنسِيُّونَ مُتْرَكُونَ في النّارِ: مُجاهِدٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ الأعْرابِيِّ، وأبُو عُبَيْدَةَ، والفَرّاءُ، وغَيْرُهم. وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿مُفْرَطُونَ﴾، عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: أيْ: مُقَدَّمُونَ إلى النّارِ مُعَجَّلُونَ؛ مَن أفْرَطْتُ فُلانًا وفَرَطْتُهُ في طَلَبِ الماءِ، إذا قَدَّمْتُهُ، ومِنهُ حَدِيثُ: «أنا فَرَطُكم عَلى الحَوْضِ»، أيْ: مُتَقَدِّمُكم. ومِنهُ قَوْلُ القُطامِيِّ: فاسْتَعْجَلُونا وكانُوا مِن صَحابَتِنا كَما تَقَدَّمَ فَرّاطٌ لِرَوّادِ. وَقَوْلُ الشَّنْفَرى: ؎هَمَمْتُ وهَمَّتْ فابْتَدَرْنا وأسْبَلَتْ وشَمَّرَ مِنِّي فارِطٌ مُتَمَهِّلُ أيْ: مُتَقَدِّمٌ إلى الماءِ. وعَلى قِراءَةِ نافِعٍ فَهو اسْمُ فاعِلٍ أفْرَطَ في الأمْرِ: إذا أسْرَفَ فِيهِ وجاوَزَ الحَدَّ. ويَشْهَدُ لِهَذِهِ القِراءَةِ قَوْلُهُ: ﴿وَأنَّ المُسْرِفِينَ هم أصْحابُ النّارِ﴾ [غافر: ٤٣]، ونَحْوُها مِنَ الآياتِ. وعَلى قِراءَةِ أبِي جَعْفَرٍ، فَهو اسْمُ فاعِلٍ، فَرَّطَ في الأمْرِ: إذا ضَيَّعَهُ وقَصَّرَ فِيهِ، ويَشْهَدُ لِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [الزمر: ٥٦]، فَقَدْ عَرَفْتَ أوْجُهَ القِراءاتِ في الآيَةِ، وما يَشْهَدُ لَهُ القُرْآنُ مِنها. وَقَوْلُهُ: لا جَرَمَ، أيْ: حَقًّا أنَّ لَهُمُ النّارَ. وقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: لا رَدَّ لِكَلامِهِمْ وتَمَّ الكَلامُ، أيْ: لَيْسَ كَما تَزْعُمُونَ وجَرَمَ أنَّ لَهُمُ النّارَ حَقًّا أنَّ لَهُمُ النّارَ ! وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ”لا“ صِلَةَ، و ”جَرَمَ“ بِمَعْنى كَسْبٍ؛ أيْ: كَسْبٌ لَهم عَمَلُهم أنَّ لَهُمُ النّارَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب