الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْناهم تاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾، في ضَمِيرِ الفاعِلِ في قَوْلِهِ: ﴿لِما لا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٥٦]، وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ عائِدٌ إلى الكُفّارِ، أيْ: ويَجْعَلُ الكُفّارُ لِلْأصْنامِ الَّتِي لا يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ أمَرَ بِعِبادَتِها، ولا يَعْلَمُونَ أنَّها تَنْفَعُ عابِدَها أوْ تَضُرُّ عاصِيَها - نَصِيبًا إلَخْ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ وما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ [الحج: ٧١]، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ومَعْنى كَوْنِهِمْ لا يَعْلَمُونَها: أنَّهم يُسَمُّونَها آلِهَةً، ويَعْتَقِدُونَ فِيها أنَّها تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وتَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ وحَقِيقَتُها أنَّها جَمادٌ، لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ؛ فَهم إذًا جاهِلُونَ بِها. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ واوَ ”يَعْلَمُونَ“ [النحل: ٥٦]، واقِعَةٌ عَلى الأصْنامِ؛ فَهي جَمادٌ لا يَعْلَمُ شَيْئًا، أيْ: ويَجْعَلُونَ لِلْأصْنامِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا لِكَوْنِهِمْ جَمادًا - نَصِيبًا إلَخْ. وهَذا الوَجْهُ • كَقَوْلِهِ: ﴿أمْواتٌ غَيْرُ أحْياءٍ وما يَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النحل: ٢١]، • وقَوْلِهِ: ﴿فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنا وبَيْنَكم إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكم لَغافِلِينَ﴾ [يونس: ٢٩]، • وقَوْلِهِ: ﴿ألَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أمْ لَهم أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أمْ لَهم أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها﴾ الآيَةَ [الأعراف: ١٩٥]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وعَلى هَذا القَوْلِ فالواوُ راجِعَةٌ إلى ”ما“ مَنَّ قَوْلِهِ ”لِما لا يَعْلَمُونَ“، وعَبَّرَ عَنْهم بِـ ”ما“ الَّتِي هي لِغَيْرِ العاقِلِ؛ لِأنَّ تِلْكَ المَعْبُوداتِ الَّتِي جَعَلُوا لَها مِن رِزْقِ اللَّهِ نَصِيبًا جَمادٌ لا تَعْقِلُ شَيْئًا. وعَبَّرَ بِالواوِ في ”لا يَعْلَمُونَ“ عَلى هَذا القَوْلِ لِتَنْزِيلِ الكُفّارِ لَها مَنزِلَةَ العُقَلاءِ في زَعْمِهِمْ أنَّها تَشْفَعُ، وتَضُرُّ وتَنْفَعُ. وَإذا عَرَفْتَ ذَلِكَ: فاعْلَمْ أنَّ هَذا المَعْنى المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ تَعالى في (p-٣٨٧)غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هَذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللَّهِ وما كانَ لِلَّهِ فَهو يَصِلُ إلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [الأنعام: ١٣٦]، وذَلِكَ أنَّ الكُفّارَ كانُوا إذا حَرَثُوا حَرْثًا، أوْ كانَتْ لَهم ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنها جُزْءًا، ولِلْوَثَنِ جُزْءًا؛ فَما جَعَلُوا مِن نَصِيبِ الأوْثانِ حَفِظُوهُ، وإنِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِمّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ رَدُّوهُ إلى نَصِيبِ الأصْنامِ، وإنْ وقَعَ شَيْءٌ مِمّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ في نَصِيبِ الأصْنامِ تَرَكُوهُ فِيهِ، وقالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ والصَّنَمُ فَقِيرٌ. وقَدْ أقْسَمَ - جَلَّ وعَلا -: عَلى أنَّهُ يَسْألُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَنْ هَذا الِافْتِراءِ والكَذِبِ، وهو زَعْمُهم أنْ نَصِيبًا مِمّا خَلَقَ اللَّهُ لِلْأوْثانِ الَّتِي لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ في قَوْلِهِ: ﴿تاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ [النحل: ٥٦]، وهو سُؤالُ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب