الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكم فِيها دِفْءٌ ومَنافِعُ ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ . ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ خَلَقَ الأنْعامَ لِبَنِي آدَمَ يَنْتَفِعُونَ بِها تَفَضُّلًا مِنهُ عَلَيْهِمْ. وقَدْ قَدَّمْنا في ”آلِ عِمْرانَ“: أنَّ القُرْآنَ بَيَّنَ أنَّ الأنْعامَ هي الأزْواجُ الثَّمانِيَةُ الَّتِي هي: الذَّكَرُ والأُنْثى مِنَ الإبِلِ، والبَقَرِ، والضَّأْنِ، والمَعْزِ. والمُرادُ بِالدِّفْءِ عَلى أظْهَرِ القَوْلَيْنِ: أنَّهُ اسْمٌ لِما يُدَّفَّأُ بِهِ، كالمَلْءِ اسْمٌ لِما يُمْلَأُ بِهِ، وهو الدِّفاءُ مِنَ اللِّباسِ المَصْنُوعِ مِن أصْوافِ الأنْعامِ وأوْبارِها وأشْعارِها. . وَيَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن بُيُوتِكم سَكَنًا وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكم ويَوْمَ إقامَتِكم ومِن أصْوافِها وأوْبارِها وأشْعارِها أثاثًا ومَتاعًا إلى حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠]، وقِيلَ: الدِّفْءُ نَسْلُها. والأوَّلُ أظْهَرُ؛ والنَّسْلُ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ومَنافِعُ [النحل: ٥]، أيْ: مِن نَسْلِها ودَرِّها: ﴿وَمِنها تَأْكُلُونَ﴾ . (p-٣٣٣)وَمَنافِعُ الأنْعامِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - امْتِنانَهُ بِها عَلى خَلْقِهِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، بَيَّنَها لَهم أيْضًا في آياتٍ كَثِيرَةٍ، • كَقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِها ولَكم فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ ﴿وَعَلَيْها وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢١، ٢٢]، • وقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنها ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ ﴿وَلَكم فِيها مَنافِعُ ولِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً في صُدُورِكم وعَلَيْها وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ ﴿وَيُرِيكم آياتِهِ فَأيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ [غافر: ٧٩ - ٨١]، • وقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهم مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعامًا فَهم لَها مالِكُونَ﴾ ﴿وَذَلَّلْناها لَهم فَمِنها رَكُوبُهم ومِنها يَأْكُلُونَ﴾ ﴿وَلَهم فِيها مَنافِعُ ومَشارِبُ أفَلا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: ٧١ - ٧٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٢، ١٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [الزمر: ٦]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. والأظْهَرُ في إعْرابِ: والأنْعامَ [النحل: ٥]، أنَّ عامِلَهُ وهو: خَلَقَ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالضَّمِيرِ فَنُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وُجُوبًا، يُفَسِّرُهُ: ”خَلَقَ“ المَذْكُورُ، عَلى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مالِكٍ في الخُلاصَةِ: ؎فالسّابِقُ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرا حَتْمًا مُوافِقٍ لِما قَدْ أظْهَرَ وَإنَّما كانَ النَّصْبُ هُنا أرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ؛ لِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى مَعْمُولِ فِعْلٍ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ﴾ الآيَةَ [النحل: ٤]، فَيَكُونُ عَطْفُ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ أوْلى مِن عَطْفِ الِاسْمِيَةِ عَلى الفِعْلِيَّةِ لَوْ رُفِعَ الِاسْمُ السّابِقُ؛ وإلى هَذا أشارَ ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ عاطِفًا عَلى ما يُخْتارُ فِيهِ النَّصْبُ: ؎وَبَعْدَ عاطِفٍ بِلا فَصْلٍ عَلى ∗∗∗ مَعْمُولِ فِعْلٍ مُسْتَقِرٍّ أوَّلا وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ قَوْلَهُ: والأنْعامَ مَعْطُوفٌ عَلى الإنْسانَ، مِن قَوْلِهِ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ [النحل: ٤]، والأوَّلُ أظْهَرُ كَما تَرى. وَأظْهَرُ أوْجُهِ الإعْرابِ في قَوْلِهِ: ﴿لَكم فِيها دِفْءٌ﴾ [النحل: ٥] أنَّ قَوْلَهُ: دِفْءٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَكم فِيها، وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ؛ اعْتِمادُها عَلى الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَها وهو الخَبَرُ كَما هو مَعْرُوفٌ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّ: دِفْءٌ فاعِلُ الجارِّ والمَجْرُورِ الَّذِي هو (p-٣٣٤)لَكم. وَفِي الآيَةِ أوْجُهٌ أُخْرى ذَكَرَها بَعْضُ العُلَماءِ تَرَكْنا ذِكْرَها؛ لِعَدَمِ اتِّجاهِها عِنْدَنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَلَكم فِيها جَمالٌ﴾ [النحل: ٦]، يَعْنِي: أنَّ اقْتِناءَ هَذِهِ الأنْعامِ ومِلْكِيَّتَها فِيهِ لِمالِكِها عِنْدَ النّاسِ جَمالٌ؛ أيْ: عَظَمَةٌ ورِفْعَةٌ، وسَعادَةٌ في الدُّنْيا لِمُقْتَنِيها. وكَذَلِكَ قالَ في الخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ: ﴿لِتَرْكَبُوها وزِينَةً﴾ [النحل: ٨]، فَعَبَّرَ في الأنْعامِ بِالجَمالِ، وفي غَيْرِها بِالزِّينَةِ. والجَمالُ: مَصْدَرُ جَمُلَ فَهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلَةٌ. ويُقالُ أيْضًا: هي جَمْلاءُ. وأنْشَدَ لِذَلِكَ الكِسائِيُّ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎فَهِيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالِعٍ ∗∗∗ بَذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعًا بِالجَمالِ والزِّينَةُ: ما يُتَزَيَّنُ بِهِ. وكانَتِ العَرَبُ تَفْتَخِرُ بِالخَيْلِ والإبِلِ ونَحْوِ ذَلِكَ كالسِّلاحِ، ولا تَفْتَخِرُ بِالبَقَرِ والغَنَمِ. ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ العَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ يَفْتَخِرُ بِمَآثِرَ قَبِيلَتِهِ بَنِي سُلَيْمٍ: ؎واذْكُرْ بَلاءَ سُلَيْمٍ في مَواطِنِها ∗∗∗ فَفي سُلَيْمٍ لِأهْلِ الفَخْرِ مُفْتَخَرُ ؎قَوْمٌ هم نَصَرُوا الرَّحْمَنَ واتَّبَعُوا ∗∗∗ دِينَ الرَّسُولِ وأمْرُ النّاسِ مُشْتَجِرُ ؎لا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وسَطَهم ∗∗∗ ولا تَخاوَرُ في مَشْتاهُمُ البَقَرُ ؎إلّا سَوابِحَ كالعِقْبانِ مُقْرَبَةً ∗∗∗ في دارَةٍ حَوْلَها الأخْطارُ والعَكَرُ والسَّوابِحُ: الخَيْلُ. والمُقْرَبَةُ: المُهَيَّأةُ المُعَدَّةُ قَرِيبًا. والأخْطارُ: جَمْعُ خَطْرٍ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أوْ كَسْرٍ فَسُكُونٍ - وهو عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الإبِلِ عَلى اخْتِلافٍ في قَدْرِهِ. والعَكَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ -: جَمْعُ عَكَرَةٍ، وهي القَطِيعُ الضَّخْمُ مِنَ الإبِلِ أيْضًا عَلى اخْتِلافٍ في تَحْدِيدِ قَدْرِهِ. وقَوْلُ الآخَرِ: ؎لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ تَرى أمْسِ فِيهِمُ ∗∗∗ مَرابِطَ لِلْأمْهارِ والعَكَرِ الدَّثَرْ ؎أحَبُّ إلَيْنا مِن أُناسٍ بِقِنَّةٍ ∗∗∗ يَرُوحُ عَلى آثارِ شائِهُمُ النَّمِرْ وَقَوْلُهُ: ”العَكَرُ الدَّثَرُ“، أيِ: المالُ الكَثِيرُ مِنَ الإبِلِ. وبَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾ [النحل: ٦]؛ لِأنَّها وقْتُ الرَّواحِ أمْلَأُ ضُرُوعًا وبُطُونًا مِنها وقْتَ سَراحِها لِلْمَرْعى. وَأظْهَرُ أوْجُهِ الإعْرابِ في قَوْلِهِ: وزِينَةً [النحل: ٨]، أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ، مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ؛ أيْ: لِأجْلِ الرُّكُوبِ والزِّينَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب