الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُّوحِي إلَيْهِمْ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ قَبْلَهُ ﷺ مِنَ الرُّسُلِ إلّا رِجالًا، أيْ: لا مَلائِكَةً. وذَلِكَ أنَّ الكُفّارَ اسْتَغْرَبُوا جِدًّا بَعْثَ اللَّهِ رُسُلًا مِنَ البَشَرِ، وقالُوا: اللَّهُ أعْظَمُ مِن أنْ يُرْسِلَ بَشَرًا يَأْكُلُ الطَّعامَ، ويَمْشِي في الأسْواقِ؛ فَلَوْ كانَ مُرْسِلًا أحَدًا حَقًّا لَأرْسَلَ مَلائِكَةً كَما بَيَّنَهُ تَعالى في آياتٍ كَثِيرَةٍ، • كَقَوْلِهِ: ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنهم أنْ أنْذِرِ النّاسَ﴾ [يونس: ٢]، • وقَوْلِهِ: ﴿بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهُمْ﴾ الآيَةَ [ق: ٢]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٧]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى إلّا أنْ قالُوا أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَقالُوا أبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وتَوَلَّوْا واسْتَغْنى اللَّهُ﴾ الآيَةَ [التغابن: ٦]، • وقَوْلِهِ، ﴿أبَشَرًا مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ . . . الآيَةَ [القمر: ٢٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يُرِيدُ أنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكم ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَأنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهَذا في آبائِنا الأوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَقالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآخِرَةِ وأتْرَفْناهم في الحَياةِ الدُّنْيا ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ ولَئِنْ أطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكم إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: - ٣٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿قالُوا إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ الآيَةَ [إبراهيم: ١٠]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في آياتٍ كَثِيرَةٍ: أنَّ اللَّهَ ما أرْسَلَ لِبَنِي آدَمَ إلّا رُسُلًا مِنَ البَشَرِ، وهم رِجالٌ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، ويَمْشُونَ في الأسْواقِ، ويَتَزَوَّجُونَ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِن صِفاتِ البَشَرِ؛ • كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ الآيَةَ [النحل: ٤٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِن أهْلِ القُرى﴾، • وقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ويَمْشُونَ في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٢٠]، (p-٣٧٩) • وَقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا نُّوحِي إلَيْهِمْ فاسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَما جَعَلْناهم جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وما كانُوا خالِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧، ٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: ٣٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ . . . الآيَةَ [الأحقاف: ٩]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ هَذا الحَرْفَ: ”يُوحى إلَيْهِمْ“ بِالياءِ المُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وفَتْحِ الحاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأهُ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”نُوحِي إلَيْهِمْ“ [النحل: ٤٣]، بِالنُّونِ وكَسْرِ الحاءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ في آخِرِ سُورَةِ ”يُوسُفَ“: ﴿إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِن أهْلِ القُرى﴾ [يوسف: ١٠٩]، وأوَّلِ ”الأنْبِياءِ:“ ﴿إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ﴾ . . ”الآيَةَ [الأنبياء: ٧] . كُلُّ هَذِهِ المَواضِعِ قَرَأ فِيها حَفْصٌ وحْدَهُ بِالنُّونِ وكَسْرِ الحاءِ. . . والباقُونَ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ وفَتْحِ الحاءِ أيْضًا. وأمّا الثّانِيَةُ: في“ سُورَةِ الأنْبِياءِ " وهي قَوْلُهُ: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ﴾ الآيَةَ [الأنبياء: ٢٥] . فَقَدْ قَرَأهُ بِالنُّونِ وكَسْرِ الحاءِ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ. والباقُونَ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ وفَتْحِ الحاءِ أيْضًا. وحَصْرُ الرُّسُلِ في الرِّجالِ في الآياتِ المَذْكُورَةِ لا يُنافِي أنَّ مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ﴾ [الحج: ٧٥]، وقالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ الآيَةَ [فاطر: ١]؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ يُرْسَلُونَ إلى الرُّسُلِ، والرُّسُلُ تُرْسَلُ إلى النّاسِ. والَّذِي أنْكَرَهُ الكُفّارُ هو إرْسالُ الرُّسُلِ إلى النّاسِ، وهو الَّذِي حَصَرَ اللَّهُ فِيهِ الرُّسُلَ في الرِّجالِ مِنَ النّاسِ، فَلا يُنافِي إرْسالُ المَلائِكَةِ لِلرُّسُلِ بِالوَحْيِ، ولِقَبْضِ الأرْواحِ، وتَسْخِيرِ الرِّياحِ والسَّحابِ، وكَتْبِ أعْمالِ بَنِي آدَمَ، وغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿فالمُدَبِّراتِ أمْرًا﴾ [النازعات: ٥] . تَنْبِيهٌ. يُفْهَمُ مِن هَذِهِ الآياتِ أنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلِ امْرَأةً قَطُّ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا﴾ [النحل: ٤٣]، ويُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ﴾ [النحل: ٤٣] أنَّ مَن جَهِلَ الحُكْمَ: يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤالُ العُلَماءِ والعَمَلُ بِما أفْتَوْهُ بِهِ. والمُرادُ بِأهْلِ الذِّكْرِ في الآيَةِ: أهْلُ الكِتابِ، وهَذِهِ الأُمَّةُ أيْضًا يَصْدُقُ عَلَيْها أنَّها أهْلُ الذِّكْرِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ﴾ . . . الآيَةَ [الحجر: ٩]، إلّا أنَّ المُرادَ في الآيَةِ أهْلُ الكِتابِ. والباءُ في قَوْلِهِ: (p-٣٨٠)﴿بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ﴾ [النحل: ٤٤]، قِيلَ: تَتَعَلَّقُ بـِ ”ما أرْسَلْنا“ داخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْناءِ مَعَ ”رِجالًا“، أيْ: وما أرْسَلْنا إلّا رِجالًا بِالبَيِّناتِ، كَقَوْلِكَ: ما ضَرَبْتُ إلّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ؛ لِأنَّ أصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ”رِجالًا“ صِفَةً لَهُ، أيْ: رِجالًا مُتَلَبِّسِينَ بِالبَيِّناتِ. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بـِ ”أرْسَلْنا“ مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلُهُ. كَأنَّهُ قِيلَ: بِمَ أُرْسِلُوا ؟ قِيلَ: بِالبَيِّناتِ. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ ”نُوحِي“، أيْ: نُوحِي إلَيْهِمْ بِالبَيِّناتِ؛ قالَهُ صاحِبُ الكَشّافِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب