الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ بَعَثَ في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا بِعِبادَةِ اللَّهِ وحْدَهُ، واجْتِنابِ عِبادَةِ ما سِواهُ. وَهَذا هو مَعْنى ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“؛ لِأنَّها مُرَكَّبَةٌ مِن نَفْيٍ وإثْباتٍ، فَنَفْيُها هو خَلْعُ جَمِيعِ المَعْبُوداتِ غَيْرَ اللَّهِ تَعالى في جَمِيعِ أنْواعِ العِباداتِ، وإثْباتُها هو إفْرادُهُ - جَلَّ وعَلا - بِجَمِيعِ أنْواعِ العِباداتِ بِإخْلاصٍ، عَلى الوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمْ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ - . وَأوْضَحَ هَذا المَعْنى كَثِيرًا في القُرْآنِ عَنْ طَرِيقِ العُمُومِ والخُصُوصِ. فَمِنَ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ مَعَ عُمُومِها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وقَوْلُهُ: ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥]، ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَمِنَ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ مَعَ الخُصُوصِ في إفْرادِ الأنْبِياءِ وأُمَمِهِمْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإلى عادٍ أخاهم هُودًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٦٥]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٧٣]، وقَوْلُهُ: ﴿وَإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٨٥]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. واعْلَمْ أنَّ كُلَّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ، فَهو طاغُوتٌ، ولا تَنْفَعُ عِبادَةُ اللَّهِ إلّا بِشَرْطِ اجْتِنابِ عِبادَةِ ما سِواهُ؛ كَما بَيَّنَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ (p-٣٧٥)اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ [البقرة: ٢٦٥]، وقَوْلِهِ: ﴿وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلّا وهم مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمِنهم مَن هَدى اللَّهُ ومِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ الأُمَمَ الَّتِي بَعَثَ فِيها الرُّسُلُ بِالتَّوْحِيدِ مِنهم سَعِيدٌ، ومِنهم شَقِيٌّ. فالسَّعِيدُ مِنهم: يَهْدِيهِ اللَّهُ إلى اتِّباعِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، والشَّقِيُّ مِنهم: يَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ فَيُكَذِّبُ الرُّسُلَ، ويَكْفُرُ بِما جاءُوا بِهِ. فالدَّعْوَةُ إلى دِينِ الحَقِّ عامَّةٌ، والتَّوْفِيقُ لِلْهُدى خاصٌّ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥]، فَقَوْلُهُ: فَمِنهم [النحل: ٣٦]، أيْ: مِنَ الأُمَمِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾، وقَوْلِهِ: ﴿مَن هَدى اللَّهُ﴾، أيْ: وفَّقَهُ لِاتِّباعِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ الَّذِي هو رابِطُ الصِّلَةِ بِالمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أيْ: فَمِنهم مَن هَداهُ اللَّهُ. عَلى حَدِّ قَوْلِهِ في الخُلاصَةِ: والحَذْفُ عِنْدَهم كَثِيرٌ مِنجَلِي في عائِدٍ مُتَّصِلٍ إنِ انْتَصَبَ بِفِعْلٍ أوْ وصْفٍ كَمَن نَرْجُو يَهَبُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ [النحل: ٣٦]، أيْ: وجَبَتْ عَلَيْهِ ولَزِمَتْهُ؛ لِما سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ مِن أنَّهُ يَصِيرُ إلى الشَّقاوَةِ. والمُرادُ بِالضَّلالَةِ: الذَّهابُ عَنْ طَرِيقِ الإسْلامِ إلى الكُفْرِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعالى هَذا المَعْنى في آياتٍ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢]، وقَوْلُهُ: ﴿فَمِنهم شَقِيٌّ وسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥]، وقَوْلُهُ: ﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧٨]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب