الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَألْقَوُا السَّلَمَ﴾، أيْ: الِاسْتِسْلامَ والخُضُوعَ. والمَعْنى: أظْهَرُوا كَمالَ الطّاعَةِ والِانْقِيادِ، وتَرَكُوا ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّقاقِ. وذَلِكَ عِنْدَما يُعايِنُونَ المَوْتَ، أوْ يَوْمَ القِيامَةِ. يَعْنِي: أنَّهم في الدُّنْيا يُشاقُّونَ الرُّسُلَ، أيْ: يُخالِفُونَهم ويُعادُونَهم، فَإذا عايَنُوا الحَقِيقَةَ ألْقَوُا السَّلَمَ، أيْ: خَضَعُوا واسْتَسْلَمُوا وانْقادُوا حَيْثُ لا يَنْفَعُهم ذَلِكَ.
وَمِمّا يَدُلُّ مِنَ القُرْآنِ عَلى أنَّ المُرادَ بِإلْقاءِ السَّلَمِ: الخُضُوعُ والِاسْتِسَلامُ، قَوْلُهُ: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: ٩٤]، عَلى قِراءَةِ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ بِلا ألِفٍ بَعْدَ اللّامِ. بِمَعْنى الِانْقِيادِ والإذْعانِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَإنِ اعْتَزَلُوكم فَلَمْ يُقاتِلُوكم وألْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ الآيَةَ [النساء: ٩١] .
والقَوْلُ بِأنَّ السَّلَمَ في الآيَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ: الصُّلْحُ والمُهادَنَةُ لا يُنافِي ما ذَكَرْنا؛ لِأنَّ المُصالِحَ مُنْقادٌ مُذْعِنٌ لِما وافَقَ عَلَيْهِ مِن تَرْكِ السُّوءِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَألْقَوْا إلى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [النحل: ٧٨]، فَكُلُّهُ بِمَعْنى الِاسْتِسْلامِ والخُضُوعِ والِانْقِيادِ. والِانْقِيادُ عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ لا يَنْفَعُ، كَما قَدَّمْنا، وكَما دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٨]، وقَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ الآيَةَ [غافر: ٨٥] (p-٣٦٨)وَقَوْلِهِ: ﴿آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٩١]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلى إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، يَعْنِي أنَّ الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ في حالِ كَوْنِهِمْ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ إذا عايَنُوا الحَقِيقَةَ ألْقَوُا السَّلَمَ، وقالُوا: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ [النحل: ٢٨]، فَقَوْلُهُ ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾، مَعْمُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ بِلا خِلافٍ.
والمَعْنى: أنَّهم يُنْكِرُونَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ السُّوءِ، وهو الكُفْرُ وتَكْذِيبُ الرُّسُلِ والمَعاصِي. وقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ كَذِبَهم بِقَوْلِهِ: ﴿بَلى إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٢٨] .
وَبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّهم يُنْكِرُونَ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي كَما ذَكَرَ هُنا. وبَيَّنَ كَذِبَهم في ذَلِكَ أيْضًا؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٣ - ٢٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿قالُوا ضَلُّوا عَنّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ﴾ [غافر: ٧٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكم ويَحْسَبُونَ أنَّهم عَلى شَيْءٍ ألا إنَّهم هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [المجادلة: ١٨]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢]،
أيْ: حَرامًا مُحَرَّمًا أنْ تَمَسُّونا بِسُوءٍ؛ لِأنّا لَمْ نَفْعَلْ ما نَسْتَحِقُّ بِهِ ذَلِكَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَقَوْلُهُ هُنا: ”بَلى“ [النحل: ٢٨]، تَكْذِيبٌ لَهم في قَوْلِهِمْ: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ .
تَنْبِيهٌ.
لَفْظَةُ: ”بَلى“ لا تَأْتِي في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ إلّا لِأحَدِ مَعْنَيَيْنِ، لا ثالِثَ لَهُما:
الأوَّلُ: أنْ تَأْتِيَ لِإبْطالِ نَفْيٍ سابِقٍ في الكَلامِ، فَهي نَقِيضَةُ ”لا“؛ لِأنَّ ”لا“ لِنَفْيِ الإثْباتِ، و ”بَلى“، لِنَفْيِ النَّفْيِ؛ كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ [النحل: ٢٨]، فَهَذا النَّفْيُ نَفَتْهُ لَفْظَةُ ”بَلى“، أيْ: كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي، وكَقَوْلِهِ: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ورَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧]، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ قُلْ بَلى ورَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبإ: ٣]، وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ (p-٣٦٩)إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١]، فَإنَّهُ نَفى هَذا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ - جَلَّ وعَلا -: ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١١٢]، ومِثْلُ هَذا كَثِيرٌ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ.
الثّانِي: أنْ تَكُونَ جَوابًا لِاسْتِفْهامٍ مُقْتَرِنٍ بِنَفْيٍ خاصَّةً؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم بَلى﴾ [يس: ٨١]،
• وقَوْلِهِ: ﴿أوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكم رُسُلُكم بِالبَيِّناتِ قالُوا بَلى﴾ [غافر: ٥٠]،
وهَذا أيْضًا كَثِيرٌ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ. أمّا إذا كانَ الِاسْتِفْهامُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِنَفْيٍ فَجَوابُهُ بِ ”، نَعَمْ“ لا بِـ ”، بَلى“، وجَوابُ الِاسْتِفْهامِ المُقْتَرِنِ بِنَفْيٍ و ”نَعَمْ“ مَسْمُوعٌ غَيْرُ قِياسِيٍّ؛ كَقَوْلِهِ:
؎ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وإيّانا فَذاكَ لَنا تَدانِي نَعَمْ
؎وَتَرى الهِلالَ كَما أراهُ ∗∗∗ ويَعْلُوها النَّهارُ كَما عَلانِي
فالمَحَلُّ لِـ ”بَلى“ لا لِـ ”نَعَمْ“ في هَذا البَيْتِ.
فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ الآياتُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الكُفّارَ يَكْتُمُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي، كَقَوْلِهِ عَنْهم: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، وقَوْلِهِ: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ [النحل: ٢٨]، ونَحْوِ ذَلِكَ. مَعَ أنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأنَّهم لا يَكْتُمُونَ حَدِيثًا في قَوْلِهِ: ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢] .
فالجَوابُ: هو ما قَدَّمْنا مِن أنَّهم يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ: ”واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ“؛ فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلى أفْواهِهِمْ، وتَتَكَلَّمُ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، فالكَتْمُ بِاعْتِبارِ النُّطْقِ بِالجُحُودِ وبِالألْسِنَةِ، وعَدَمُ الكَتْمِ بِاعْتِبارِ شَهادَةِ أعْضائِهِمْ عَلَيْهِمْ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُا۟ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوۤءِۭۚ بَلَىٰۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق