الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ الَّذِينَ يَصْرِفُونَ النّاسَ عَنِ القُرْآنِ بِدَعْواهم أنَّهُ أساطِيرُ الأوَّلِينَ، تَحَمَّلُوا أوْزارَهم - أيْ: ذُنُوبَهم - كامِلَةً، وبَعْضَ أوْزارِ أتْباعِهِمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهم في الضَّلالِ؛ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّبْعِيضِ الَّذِي هو ”وَمِن“، في قَوْلِهِ: ﴿وَمِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ الآيَةَ [النحل: ٢٥] . وَقالَ القُرْطُبِيُّ: ”مَن“ لِبَيانِ الجِنْسِ؛ فَهم يَحْمِلُونَ مِثْلَ أوْزارِ مَن أضَلُّوهم كامِلَةً. وَأوْضَحَ تَعالى هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ ولَيُسْألُنَّ يَوْمَ القِيامَةِ عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الزمر: ١٣]، واللّامُ في قَوْلِهِ ”لِيَحْمِلُوا“ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ المَقامُ عَلَيْهِ، أيْ: قَدَّرْنا عَلَيْهِمْ أنْ يَقُولُوا في القُرْآنِ: أساطِيرُ الأوَّلِينَ؛ لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم. تَنْبِيهٌ. فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ تَحَمُّلِهِمْ بَعْضَ أوْزارِ غَيْرِهِمُ المَنصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الآيَةَ [النحل: ٢٥]، وقَوْلِهِ: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ الآيَةَ [العنكبوت: ١٣]، مَعَ أنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [فاطر: ١٨]، ويَقُولُ - جَلَّ وعَلا -: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٦٤]، ويَقُولُ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٣٤، ٢ - ١٤١]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. (p-٣٦٤)فالجَوابُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنَّ رُؤَساءَ الضَّلالِ وقادَتَهُ تَحَمَّلُوا وِزْرَيْنِ: أحَدُهُما: وِزْرُ ضَلالِهِمْ في أنْفُسِهِمْ. والثّانِي: وِزْرُ إضْلالِهِمْ غَيْرَهم؛ لِأنَّ مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها، لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْئًا. وإنَّما أُخِذَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي سَنَّهُ وتَسَبَّبَ فِيهِ، فَعُوقِبَ عَلَيْهِ مِن هَذِهِ الجِهَةِ؛ لِأنَّهُ مِن فِعْلِهِ، فَصارَ غَيْرَ مُنافٍ لِقَوْلِهِ ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾ الآيَةَ [فاطر: ١٨] . وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ مُوسى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وأبِي الضُّحى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلالٍ العَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ: «جاءَ ناسٌ مِنَ الأعْرابِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأى سُوءَ حالِهِمْ، قَدْ أصابَتْهم حاجَةٌ فَحَثَّ النّاسَ عَلى الصَّدَقَةِ، فَأبْطَؤُوا عَنْهُ حَتّى رُؤِيَ ذَلِكَ في وجْهِهِ، قالَ: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ جاءَ بِصُرَّةٍ مِن ورَقٍ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتابَعُوا حَتّى عُرِفَ السُّرُورُ في وجْهِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”مَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِها بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ مَن عَمِلَ بِها ولا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. ومَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِها بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بِها ولا يَنْقُصُ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ»“ اه. أخْرَجَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ هَذا الحَدِيثَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِن طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وأخْرَجَهُ نَحْوَهُ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن دَعا إلى هُدًى كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْئًا " . ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِن آثامِهِمْ شَيْئًا» اه. قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلى رَفْعِ الإشْكالِ بَيْنَ الآياتِ، كَما تَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ حَسَناتِ هَذِهِ الأُمَّةِ في صَحِيفَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَهُ مَثَلُ أُجُورِ جَمِيعِهِمْ؛ لِأنَّهُ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ - هو الَّذِي سَنَّ لَهُمُ السُّنَنَ الحَسَنَةَ جَمِيعَها في الإسْلامِ، نَرْجُو اللَّهَ لَهُ الوَسِيلَةَ والدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وأنْ يُصَلِّيَ ويُسَلِّمَ عَلَيْهِ أتَمَّ صَلاةٍ وأزْكى سَلامٍ. وَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: ٢٥]، يَدُلُّ عَلى أنَّ الكافِرَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بَعْدَ إبْلاغِ الرُّسُلِ المُؤَيَّدِ بِالمُعْجِزاتِ، الَّذِي لا لُبْسَ مَعَهُ في الحَقِّ، ولَوْ كانَ يَظُنُّ أنَّ (p-٣٦٥)كَفْرَهُ هُدًى؛ لِأنَّهُ ما مَنَعَهُ مِن مَعْرِفَةِ الحَقِّ مَعَ ظُهُورِهِ إلّا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ لِلْكُفْرِ، كَما قَدَّمْنا الآياتِ الدّالَّةَ عَلى ذَلِكَ في ”الأعْرافِ“؛ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ٣٠]، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤]، وقَوْلُهُ: ﴿وَبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: ٤٧]، وحَمْلُهم أوْزارَهم هو اكْتِسابُهُمُ الإثْمَ الَّذِي هو سَبَبُ تَرَدِّيهِمْ في النّارِ، أعاذَنا اللَّهُ والمُسْلِمِينَ مِنها. وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: مَعْنى حَمْلِهِمْ أوْزارَهم: أنَّ الواحِدَ مِنهم عِنْدَ خُرُوجِهِ مِن قَبْرِهِ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَقْبِلُهُ شَيْءٌ كَأقْبَحِ صُورَةٍ، وأنْتَنِها رِيحًا؛ فَيَقُولُ: مَن أنْتَ ؟ فَيَقُولُ: أوْ ما تَعْرِفُنِي ! فَيَقُولُ: لا ولِلَّهِ، إلّا أنَّ اللَّهَ قَبَّحَ وجْهَكَ ! أنْتَنَ رِيحَكَ ! فَيَقُولُ أنا عَمَلُكَ الخَبِيثُ، كُنْتَ في الدُّنْيا خَبِيثَ العَمَلِ مُنْتِنَهُ فَطالَما رَكِبْتَنِي في الدُّنْيا ! هَلُمَّ أرْكَبُكَ اليَوْمَ؛ فَيَرْكَبُ عَلى ظَهْرِهِ اه. وَقَوْلُهُ ﴿ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥]، (ساءَ) فِعْلٌ جامِدٌ؛ لِإنْشاءِ الذَّمِّ بِمَعْنى بِئْسَ، و (ما)، فِيها الوَجْهانِ المُشارُ إلَيْهِما بِقَوْلِهِ في الخُلاصَةِ: ؎وَما مُمَيَّزٌ وقِيلَ فاعِلٌ في نَحْوِ نَعَمْ يَقُولُ الفاضِلُ وَقَوْلُهُ (يَزِرُونَ)، أيْ: يَحْمِلُونَ، وقالَ قَتادَةُ: يَعْمَلُونَ. اه. ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): (p-٣١٨)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النَّحْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ الآيَةَ. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ الضّالِّينَ يَحْمِلُونَ أوْزارَهم كامِلَةً، ويَحْمِلُونَ أيْضًا مِن أوْزارِ الأتْباعِ الَّذِينَ أضَلُّوهم. وَقَدْ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَحْمِلُ أحَدٌ وِزْرَ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنهُ شَيْءٌ ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ [فاطر: ١٨]، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] . والجَوابُ أنَّ هَؤُلاءِ الضّالِّينَ ما حَمَلُوا إلّا أوْزارَ أنْفُسِهِمْ، لِأنَّهم تَحَمَّلُوا وِزْرَ الضَّلالِ ووِزْرَ الإضْلالِ. فَمَنَّ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها، ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْئًا، لِأنَّ تَشْرِيعَهُ لَها لِغَيْرِهِ ذَنْبٌ مِن ذُنُوبِهِ فَأُخِذَ بِهِ. وَبِهَذا يَزُولُ الإشْكالُ أيْضًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ الآيَةَ [العنكبوت: ١٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب