الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهو خَيْرٌ لِّلصّابِرِينَ﴾، نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةُ مِن (سُورَةِ النَّحْلِ) بِالمَدِينَةِ، في تَمْثِيلِ المُشْرِكِينَ بِحَمْزَةَ ومَن قُتِلَ مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. فَقالَ المُسْلِمُونَ: لَئِنْ أظْفَرَنا اللَّهُ بِهِمْ لَنُمَثِّلُنَّ بِهِمْ؛ فَنَزَلَتِ الآيَةَ الكَرِيمَةُ، فَصَبَرُوا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦]، مَعَ أنَّ (سُورَةَ النَّحْلِ) مَكِّيَّةٌ، إلّا هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثِ مِن آخِرِها. والآيَةَ فِيها جَوازُ الِانْتِقامِ والإرْشادِ إلى أفْضَلِيَّةِ العَفْوِ. وقَدْ ذَكَرَ تَعالى هَذا المَعْنى في القُرْآنِ؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ الآيَةَ [الشورى: ٤٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٤٥]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ - إلى قَوْلِهِ - ﴿وَلَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤١ - ٤٣]،
• وقَوْلِهِ: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ - إلى قَوْلِهِ -: ﴿أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: ١٤٩]،
كَما قَدَّمْنا.
* * *
(p-٤٦٧)مَسائِلُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
المَسْألَةُ الأُولى: يُؤْخَذُ مِن هَذِهِ الآيَةِ حُكْمُ مَسْألَةِ الظَّفَرِ، وهي أنَّكَ إنْ ظَلَمَكَ إنْسانٌ: بِأنْ أخَذَ شَيْئًا مِن مالِكَ بِغَيْرِ الوَجْهِ الشَّرْعِيِّ ولَمْ يُمْكِنْ لَكَ إثْباتُهُ، وقَدَرْتَ لَهُ عَلى مِثْلِ ما ظَلَمَكَ بِهِ عَلى وجْهٍ تَأْمَنُ مَعَهُ الفَضِيحَةَ والعُقُوبَةَ؛ فَهَلْ لَكَ أنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ أوْ لا ؟ .
أصَحُّ القَوْلَيْنِ، وأجْرَأُهُما عَلى ظَواهِرِ النُّصُوصِ وعَلى القِياسِ: أنَّ لَكَ أنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ الآيَةَ [النحل: ١٢٦]، وقَوْلِهِ: ﴿فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] .
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ: ابْنُ سِيرِينَ، وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ، وسُفْيانُ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهم.
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ مِنهم مالِكٌ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ وعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إسْحاقَ المالِكِيُّ في مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ في الوَدِيعَةِ: ولَيْسَ لَهُ الأخْذُ مِنها لِمَن ظَلَمَهُ بِمِثْلِها.
واحْتَجَّ مَن قالَ بِهَذا القَوْلِ بِحَدِيثِ: «أدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ. ولا تَخُنْ مِن خانَكَ»، اه. وهَذا الحَدِيثُ عَلى فَرْضِ صِحَّتِهِ لا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ؛ لِأنَّ مَن أخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ ولَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَخُنْ مَن خانَهُ، وإنَّما أنْصَفَ نَفْسَهُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أخَذَ بَعْضُ العُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ المُماثَلَةَ في القِصاصِ، فَمَن قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِها، ومَن قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِهِ، ويُؤَيِّدُهُ رَضُّهُ ﷺ رَأْسَ يَهُودِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ؛ قِصاصًا لِجارِيَةٍ فَعَلَ بِها مِثْلَ ذَلِكَ " .
وَهَذا قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ ومَن وافَقَهُ، زاعِمًا أنَّ القَتْلَ بِغَيْرِ المُحَدَّدِ شِبْهُ عَمْدٍ، لا عَمْدٌ صَرِيحٌ حَتّى يَجِبَ فِيهِ القِصاصُ. وسَيَأْتِي لِهَذا - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - زِيادَةُ إيضاحٍ في (سُورَةِ الإسْراءِ) .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أطْلَقَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ اسْمَ العُقُوبَةِ عَلى الجِنايَةِ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، والجِنايَةُ الأُولى لَيْسَتْ عُقُوبَةً؛ لِأنَّ القُرْآنَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. ومِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ المُشاكَلَةُ بَيْنَ الألْفاظِ؛ فَيُؤَدِّي لَفْظٌ بِغَيْرِ مَعْناهُ المَوْضُوعِ لَهُ مُشاكَلَةً لِلَفْظٍ آخَرَ مُقْتَرِنٍ بِهِ في الكَلامِ؛ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎قالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَهُ قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وقَمِيصًا
(p-٤٦٨)أيْ: خَيِّطُوا لِي. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ومِنهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
؎هَذِي الأرامِلُ قَدْ قُضِيَتْ حاجَتُها ∗∗∗ فَمَن لِحاجَةِ هَذا الأرْمَلِ الذَّكَرِ
بِناءً عَلى القَوْلِ بِأنَّ الأرامِلَ لا تُطْلَقُ في اللُّغَةِ إلّا عَلى الإناثِ.
وَنَظِيرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ في إطْلاقِ إحْدى العُقُوبَتَيْنِ عَلى ابْتِداءِ الفِعْلِ مُشاكَلَةً لِلَّفْظِ الآخَرِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ [الحج: ٦٠]، ونَحْوُهُ أيْضًا.
قَوْلُهُ: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، مَعَ أنَّ القَصّاصَ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ، وقَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٩٤]؛ لِأنَّ القِصاصَ مِنَ المُعْتَدِي أيْضًا لَيْسَ بِاعْتِداءٍ كَما هو ظاهِرٌ، وإنَّما أُدِّيَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ لِلْمُشاكَلَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ.
{"ayah":"وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُوا۟ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَىِٕن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَیۡرࣱ لِّلصَّـٰبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق