الباحث القرآني

(p-٣٢٦)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النَّحْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ . أيْ: قَرُبَ وقْتُ إتْيانِ القِيامَةِ. وَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الماضِي؛ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الوُقُوعِ مَنزِلَةَ الوُقُوعِ. واقْتِرابُ القِيامَةِ المُشارُ إلَيْهِ هُنا بَيَّنَهُ - جَلَّ وعَلا - في مَواضِعَ أُخَرَ، • كَقَوْلِهِ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهم وهم في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١]، • وقَوْلِهِ - جَلَّ وعَلا -: ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: ١]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: ٦٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧]، • وقَوْلِهِ - جَلَّ وعَلا -: ﴿أزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِن دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ﴾ [النجم: ٧٥ - ٥٨]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. والتَّعْبِيرُ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الماضِي؛ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، • كَقَوْلِهِ: ونُفِخَ ﴿فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن في السَّماواتِ﴾ الآيَةَ [الزمر: ٦٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَنادى أصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابَ النّارِ﴾ . . . الآيَةَ [الأعراف: ٤٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها ووُضِعَ الكِتابُ وجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَداءِ وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وهو أعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ﴾ ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ . . الآيَةَ [الزمر: ٦٩ - ٧١] . فَكُلُّ هَذِهِ الأفْعالِ الماضِيَةِ بِمَعْنى الِاسْتِقْبالِ، نَزَلَ تَحَقُّقُ وُقُوعِها مَنزِلَةَ الوُقُوعِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾، نَهى اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنِ اسْتِعْجالِ ما وعَدَ بِهِ مِنَ الهَوْلِ والعَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ، والِاسْتِعْجالُ هو طَلَبُهم أنْ يُعَجِّلَ لَهم ما يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ. والآياتُ المُوَضِّحَةُ لِهَذا المَعْنى كَثِيرَةٌ، • كَقَوْلِهِ - جَلَّ وعَلا -: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ ولَوْلا أجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ العَذابُ ولَيَأْتِيَنَّهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ " [العنكبوت: ٥٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٥٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنها﴾ [الشورى: ١٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَلَئِنْ أخَّرْنا عَنْهُمُ العَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ﴾ الآيَةَ [هود: ٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ﴾ [ص: ١٦]، (p-٣٢٧) • وَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أتاكم عَذابُهُ بَياتًا أوْ نَهارًا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ المُجْرِمُونَ﴾ [يونس: ٥٠]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١] في تَفْسِيرِهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ العَذابُ المُوعَدُ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، المَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: ١] . والثّانِي: أنَّهُ يَعُودُ إلى اللَّهِ؛ أيْ: لا تَطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ أنْ يُعَجِّلَ لَكُمُ العَذابَ. قالَ: مَعْناهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا نَزَلَتْ: ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: ١]، قالَ الكُفّارُ: إنَّ هَذا يَزْعُمُ أنَّ القِيامَةَ قَدْ قَرُبَتْ ! فَأمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَأمْسَكُوا فانْتَظَرُوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقالُوا: ما نَرى شَيْئًا ! فَنَزَلَتْ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ﴾ الآيَةَ [الأنبياء: ١]، فَأشْفَقُوا وانْتَظَرُوا قُرْبَ السّاعَةِ؛ فامْتَدَّتِ الأيّامُ، فَقالُوا: ما نَرى شَيْئًا، فَنَزَلَتْ: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: ١]، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ وخافُوا، فَنَزَلَتْ: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ فاطْمَأنُّوا. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْنِ“، وأشارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبّابَةِ والَّتِي تَلِيها " . اه مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ القُرْطُبِيِّ، وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾، أيْ: لا تَظُنُّوهُ واقِعًا الآنَ عَنْ عَجَلٍ، بَلْ هو مُتَأخِّرٌ إلى وقْتِهِ المُحَدَّدِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وَقَوْلُ الضَّحّاكِ ومَن وافَقَهُ: إنَّ مَعْنى: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾، أيْ: فَرائِضُهُ وحُدُودُهُ، قَوْلٌ مَرْدُودٌ ولا وجْهَ لَهُ، وقَدْ رَدَّهُ الإمامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ قائِلًا: إنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنا أنَّ أحَدًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْجَلَ فَرائِضَ قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَيُقالُ لَهم مِن أجْلِ ذَلِكَ: قَدْ جاءَتْكم فَرائِضُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوها. أمّا مُسْتَعْجِلُو العَذابِ مِنَ المُشْرِكِينَ فَقَدْ كانُوا كَثِيُرًا. اه. والظّاهِرُ المُتَبادِرُ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّها تَهْدِيدٌ لِلْكُفّارِ بِاقْتِرابِ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ نَهْيِهِمْ عَنِ اسْتِعْجالِهِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: وأوْلى القَوْلَيْنِ في ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوابِ قَوْلُ مَن قالَ: هو تَهْدِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِأهْلِ الكُفْرِ بِهِ وبِرَسُولِهِ، وإعْلامٌ مِنهُ لَهم قُرْبَ العَذابِ مِنهم والهَلاكِ، وذَلِكَ (p-٣٢٨)أنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١]، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلى تَقْرِيعِهِ المُشْرِكِينَ بِهِ ووَعِيدِهِ لَهم. اه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب