الباحث القرآني

(p-١٧٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾، في مَجِيءِ مَلِكِ النّاسِ بَعْدَ رَبِّ النّاسِ، تَدَرُّجٌ في التَّنْبِيهِ عَلى تِلْكَ المَعانِي العِظامِ، وانْتِقالٌ بِالعِبادِ مِن مَبْدَأِ الإيمانِ بِالرَّبِّ لِما شاهَدُوهُ مِن آثارِ الرُّبُوبِيَّةِ في الخَلْقِ والرِّزْقِ، وجَمِيعِ تِلْكَ الكائِناتِ، كَما تَقَدَّمَ في أوَّلِ نِداءٍ وُجِّهَ إلَيْهِمْ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١ - ٢٢] . كُلُّ هَذِهِ الآثارِ الَّتِي لَمَسُوها وأقَرُّوا بِمُوجِبِها، بِأنَّ الَّذِي أوْجَدَها هو رَبُّهم، ومِن ثَمَّ يَنْتَقِلُونَ إلى الدَّرَجَةِ الثّانِيَةِ، وهي أنَّ رَبَّهُ الَّذِي هَذِهِ أفْعالُهُ هو مَلِكُهُ وهو المُتَصَرِّفُ في تِلْكَ العَوالِمِ، ومَلِكٌ لِأمْرِهِ وجَمِيعِ شُئُونِهِ، ومَلِكٌ لِأمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ جَمِيعًا. فَإذا وصَلَ بِإقْرارِهِ إلى هَذا الإدْراكِ، أقَرَّ لَهُ ضَرُورَةً بِالأُلُوهِيَّةِ وهي المَرْتَبَةُ النِّهايَةُ ”إلَهِ النّاسِ“ أيْ: مَأْلُوهِهِمْ ومَعْبُودِهِمْ وهو ما خَلَقَهم إلَيْهِ، ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] . وَفِي إضافَةِ المَلِكِ إلى النّاسِ مِن إشْعارِ الِاخْتِصاصِ، مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ مَلِكُ كُلِّ شَيْءٍ، فِيهِ ما في إضافَةِ الرَّبِّ لِلنّاسِ المُتَقَدِّمِ بَحْثُهُ، فَهو سُبْحانَهُ مالِكُ المُلْكِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَن تَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] . وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ﴾ [التغابن: ١] . وَقَوْلِهِ: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٠٧]، وقَوْلِهِ: ﴿المَلِكُ القُدُّوسُ﴾ [الحشر: ٢٣] . فَهُوَ سُبْحانَهُ وتَعالى المُتَفَرِّدُ بِالمُلْكِ لا شَرِيكَ لَهُ في مُلْكِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ [الإسراء: ١١١] فَبَدَأ بِالحَمْدِ أوْلًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس: ٨٣]، بَدَأ بِتَسْبِيحِ نَفْسِهِ وتَنْزِيهِهِ لِعُمُومِ المُلْكِ ومُطْلَقِ التَّصَرُّفِ ونَفْيِ الشَّرِيكِ؛ لِأنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ تَصَرُّفٍ وتَدْبِيرٍ مَعَ الكَمالِ في الحَمْدِ والتَّقْدِيسِ. (p-١٧٦)وَكَقَوْلِهِ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: ١] . وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ يُعْلَمُ كَمالُ مُلْكِهِ تَعالى، ونَقْصُ مُلْكِ ما سِواهُ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا، ونَعْلَمُ أنَّ مُلْكَهم بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] . وَقَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] . وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ مُلُوكَ الدُّنْيا مُلْكُهم مُلْكُ سِياسَةٍ ورِعايَةٍ، لا مُلْكُ تَمَلُّكٍ وتَصَرُّفٍ، وكَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالَ لَهم نَبِيُّهم إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكم طالُوتَ مَلِكًا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ قالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكم وزادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٧] . والجَدِيرُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ المُناسَبَةِ أنَّ ”بِرِيطانْيا“ تَحْتَرِمُ نِظامَ المِلْكِيَّةِ إلى هَذا الوَقْتِ الحاضِرِ، بِدافِعٍ مِن هَذا المُعْتَقَدِ، وأنَّهُ لا مَلِكَ إلّا بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إيّاهُ، وأنَّ مُلُوكَ الدُّنْيا بِاصْطِفاءٍ مِنَ اللَّهِ. والآيَةُ تُشِيرُ إلى ما نَحْنُ بِصَدَدِ بَيانِهِ، مِن أنَّ مُلُوكَ الدُّنْيا لا يَمْلِكُونَ أمْرَ الرَّعِيَّةِ لِأنَّ طالُوتَ مَلِكًا، ولَيْسَ مالِكًا لِأمْوالِهِمْ. بَيْنَما مُلْكُ اللَّهِ تَعالى مُلْكُ خَلْقٍ وإيجادٍ وتَصَرُّفٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٤٩ - ٥٠] . وَعَلِيمٌ قَدِيرٌ هُنا مِن خَصائِصِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَيَتَصَرَّفُ في مُلْكِهِ بِعِلْمٍ وعَنْ قُدْرَةٍ كامِلَيْنِ سُبْحانَهُ، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحديد: ٢] . وَتَظْهَرُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إذا جاءَ اليَوْمُ الحَقُّ، فَيَتَلاشى كُلُّ مُلْكٍ قَلَّ أوْ كَثُرَ، ويُذَلُّ كُلُّ مَلِكٍ كَبُرَ أوْ صَغُرَ، ولَمْ يَبْقَ إلّا مُلْكُهُ تَعالى ﴿يَوْمَ هم بارِزُونَ لا يَخْفى عَلى اللَّهِ مِنهم شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ [غافر: ١٦] . (p-١٧٧)وَفِي سُورَةِ الفاتِحَةِ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] . والقِراءَةُ الأُخْرى: ”مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ“ [الفاتحة: ٤] . فِي القِراءَتَيْنِ مَعًا إشْعارٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ مُلْكِ اللَّهِ ومُلْكِ العِبادِ، كالفَرْقِ بَيْنَ المَلِكِ المُطْلَقِ والمَلِكِ النِّسْبِيِّ، إذِ المَلِكُ النِّسْبِيُّ لا يَمْلِكُ، والمَلِكُ المُطْلَقُ، فَهو المَلِكُ القُدُّوسُ، والَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تَرْجِعُ الخَلائِقُ كُلُّهم. وَمَن كانَتْ هَذِهِ صِفاتُهُ، فَهو المُسْتَحِقُّ لِأنْ يُعْبَدَ وحْدَهُ سُبْحانَهُ، ولا يُشْرَكَ مَعَهُ أحَدٌ، وهَذا هو شِعارُ العَبْدِ في الرُّكْنِ الخامِسِ مِن أرْكانِ الإسْلامِ، حِينَ يُهِلُّ بِالتَّلْبِيَةِ: إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب