الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ . قالُوا: كُفُؤًا وكُفُوًا وكَفاءً، بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو المِثْلُ. وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ في مَعْنى الآيَةِ، وكُلُّها تَدُورُ عَلى مَعْنى نَفْيِ المُماثَلَةِ. فَعَنْ كَعْبٍ وعَطاءٍ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ولا عَدِيلٌ. وَرَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ بِمَعْنى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَعَنْ مُجاهِدٍ: أيْ لا صاحِبَةَ لَهُ. وَقَدْ جاءَ نَفْيُ الكُفْءِ والمِثْلِ والنِّدِّ والعَدْلِ، فالكُفْءُ في هَذِهِ السُّورَةِ والمِثْلُ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ [النحل: ٧٤] . والنِّدُّ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] . والعِدْلُ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ عِنْدَ آيَةِ الأنْعامِ بَيانٌ لِذَلِكَ، أيْ يُساوُونَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العِدْلِ بِكَسْرِ أوَّلِهِ، وهو أحَدُ شِقَّيْ حَمْلِ البَعِيرِ عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، والآخَرُ مِنَ العُدُولِ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مَبْحَثانِ يُورِدُهُما المُفَسِّرُونَ. أحَدُهُما: أسْبابُ نُزُولِها، والآخَرُ: ما جاءَ في فَضْلِها، ولَمْ يَكُنْ مِن مَوْضُوعِ هَذا الكِتابِ تَتَبُّعُ ذَلِكَ، إلّا ما كانَ لَهُ دَوافِعُ تَتَعَلَّقُ بِالمَعْنى. (p-١٥٥)أمّا ما جاءَ في فَضْلِها، فَقَدْ قالَ أبُو حَيّانَ في تَفْسِيرِهِ: لَقَدْ أكْثَرَ المُفَسِّرُونَ إيرادَ الآثارِ في ذَلِكَ، ولَيْسَ هَذا مَحَلُّها، وهو كَما قالَ، فَقَدْ أوْرَدَها ابْنُ كَثِيرٍ والفَخْرُ الرّازِيُّ والقُرْطُبِيُّ وابْنُ حَجَرٍ في الإصابَةِ في تَرْجَمَةِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ وغَيْرُهم، ولَيْسَ هَذا مَحَلُّ إيرادِها، اللَّهُمَّ إلّا ما جاءَ في الصَّحِيحِ: أنَّ تِلاوَتَها تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ لِتَعَلُّقِ مَوْضُوعِها بِالتَّوْحِيدِ. أمّا المَبْحَثُ الآخَرُ وهو سَبَبُ نُزُولِها، فَقِيلَ فِيهِ. إنَّ المُشْرِكِينَ طَلَبُوا مِنهُ ﷺ أنْ يَنْسُبَ لَهم رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ. وَقَوْلُهُ فِيها: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾، رُدٌّ عَلى إثْباتِ النَّسَبِ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. وَقَدْ جاءَ مِثْلُ هَذا المَعْنى حِينَما سَألَ فِرْعَوْنُ مُوسى عَنْ رَبِّهِ، فَقالَ لَهُ: ﴿وَما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] . فَجاءَ جَوابُهُ: ﴿قالَ رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ﴿قالَ لِمَن حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ﴾ ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٤ - ٢٧] . وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ، أنَّ مُوجِبَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ عَنْ مُوسى ”لَمَجْنُونٌ“؛ لِأنَّهُ سَألَهُ بِما في قَوْلِهِ: ﴿قالَ فِرْعَوْنُ وما رَبُّ العالَمِينَ﴾، وما يَسْألُ بِها عَنْ شَرْحِ الماهِيَّةِ فَكانَ مُقْتَضى السُّؤالِ بِها أنْ يُبَيِّنَ ماهِيَّةَ الرَّبِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، مِن أيِّ شَيْءٍ هو، كَما يُقالُ في جَوابٍ: ما الإنْسانُ ؟ إنَّهُ حَيَوانٌ ناطِقٌ. وَلَكِنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أعْرَضَ عَنْ سُؤالِ فِرْعَوْنَ لِجَهْلِهِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّهِ تَعالى أوْ لِتَجاهُلِهِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤]، وأجابَهُ عَمّا يَخُصُّهُ ويَلْزَمُهُ الِاعْتِرافُ بِهِ مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما، لا رُبُوبِيَّةَ فِرْعَوْنَ الكاذِبَةَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ في القُرْآنِ، لَمّا سَألُوا عَنِ الأهِلَّةِ، ما بالُها تَبْدُو صَغِيرَةً، ثُمَّ تَكْبُرُ ؟ فَهو سُؤالٌ عَنْ حَقِيقَةِ تَغَيُّرِها، فَتَرَكَ القُرْآنُ جَوابَهم عَلى سُؤالِهِمْ وأجابَهم بِما يَلْزَمُهم ويَنْفَعُهم. وَكَذَلِكَ جَوابُ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلنُّمْرُوذِ حِينَما حاجَّهُ في رَبِّهِ: ﴿إذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] . (p-١٥٦)فَذَكَرَهُ سُبْحانَهُ بِصِفاتِهِ، وفي هَذِهِ السُّورَةِ لَمّا سَألُوا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّهِ ونَسَبِهِ جاءَ الجَوابُ بِصِفاتِهِ؛ لِأنَّ ما يَسْألُونَ عَنْهُ إنَّما يَكُونُ في المَخْلُوقاتِ لا في الخالِقِ سُبْحانَهُ، وفي المُمْكِنِ لا في الواجِبِ الوُجُودِ لِذاتِهِ، سُبْحانَ مَن لا يُدْرِكُ كُنْهَهُ غَيْرُهُ، وصَدَقَ اللَّهُ العَظِيمُ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠] . * * * (p-١٥٧)المُعَوِّذَتانِ سُورَةُ الفَلَقِ وسُورَةُ النّاس يَذْكُرُ المُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ كانَ يَراهُما مُعَوِّذَتَيْنِ مِن غَيْرِ القُرْآنِ، ولَكِنْ «أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قالَ: أشْهَدُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أخْبَرَنِي أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لَهُ: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ [الفلق: ١] فَقُلْتُها وقالَ ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ [الناس: ١] فَقُلْتُها فَنَحْنُ نَقُولُ ما قالَهُ النَّبِيُّ ﷺ»، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ. وذَكَرَ نَحْوَهُ عَنِ البُخارِيِّ ثُمَّ قالَ: ثُمَّ قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ إلى قَوْلِ الجَماعَةِ، فَإنَّ الصَّحابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أثْبَتُوهُما في المَصاحِفِ الأئِمَّةِ، ونَفَّذُوها إلى سائِرِ الآفاقِ. ورُوِيَ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ بِهِما في الصَّلاةِ وساقَ عِدَّةَ طُرُقٍ في إثْباتِ أنَّهُما قُرْآنٌ، مِمّا يَنْفِي أيَّ خِلافٍ بَعْدِ ذَلِكَ في إثْباتِهِما. وقَدِ اعْتَذَرَ القُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِأنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُما مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، عَلى أنَّهُما قُرْآنٌ وسَمِعَهُما فَظَنَّهُما أنَّهُما دُعاءٌ مِنَ الأدْعِيَةِ، كَقَوْلِهِ ﷺ «أُعُوذُ بِكَلِماتِ اللَّهِ التّامّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ» . ولَمّا بَلَغَهُ إثْباتُهُما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَجَعَ إلى قَوْلِ الجُمْهُورِ. ومِنَ الجَدِيرِ بِالذِّكْرِ التَّنْوِيهُ عَنِ ارْتِباطِهِما بِسُورَةِ الإخْلاصِ قَبْلَهُما. وهو أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى الواحِدُ الأحَدُ، الفَرْدُ الصَّمَدُ، والصَّمَدُ مِن مَعانِيهِ الَّذِي تَصْمُدُ الخَلائِقُ إلَيْهِ في حاجاتِهِمْ، جاءَ في هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ تَوْجِيهُ العِبادِ إلى مَن يَسْتَعِيذُونَ ويَلُوذُونَ بِهِ، وهو اللَّهُ الصَّمَدُ سُبْحانَهُ، فَهو وحْدَهُ الَّذِي يُعِيذُهم ويَحْفَظُهم وهو الَّذِي يَلْجَئُونَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ. وقُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ: تُعادِلُ الِاسْتِعاذَةَ بِالخالِقِ مِمّا خَلَقَ؛ لِأنَّ كُلَّ مُنْغَلِقٍ عَنْ غَيْرِهِ، إلّا اللَّهُ الواحِدُ الَّذِي لَمْ يَلِدُ ولَمْ يُولَدْ. الثّانِيَةُ بَعْدَها: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾، إلَهِ النّاسِ. وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَنْبِيهٌ عَلى ما يُعْطِيهِ السِّياقُ مِن خَتْمِ المُصْحَفِ الشَّرِيفِ بِهاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ، والمُقارَنَةُ بَيْنَهُما لِبَيانِ عِظَمِ مَنزِلَتِهِما. كَما أنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ، قَدْ أحالَ عَلى سُورَةِ النّاسِ لِإتْمامِ مَبْحَثِ إفْرادِ اللَّهِ تَعالى بِالعِبادَةِ، كَما سَنُوَضِّحُهُ كُلَّهُ إنْ شاءَ اللَّهُ في مَحَلِّهِ، وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب