الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمّا تَقُولُ وإنّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وما أنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ﴾ .
بَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ نَبِيَّهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الكُفّارِ، وأعَزَّ جانِبَهُ بِسَبَبِ العَواطِفِ العَصَبِيَّةِ، والأواصِرِ النَّسَبِيَّةِ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ هم كُفّارٌ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُتَمَسِّكَ بِدِينِهِ قَدْ يُعِينُهُ اللَّهُ، ويُعِزُّهُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الكافِرِ، كَما بَيَّنَهُ تَعالى في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ في صالِحٍ وقَوْمِهِ: ﴿قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهْلِهِ﴾ . الآيَةَ [النمل: ٤٩]
فَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم لا قُدْرَةَ لَهم عَلى أنْ يَفْعَلُوا السُّوءَ بِصالِحٍ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ إلّا في حالِ الخَفاءِ، وأنَّهم لَوْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ خَفاءً وسَرِقَةً لَكانُوا يَحْلِفُونَ لِأوْلِيائِهِ الَّذِينَ هم عَصَبَتُهُ أنَّهم ما فَعَلُوا بِهِ سُوءًا، ولا شَهِدُوا ذَلِكَ ولا حَضَرُوهُ خَوْفًا مِن عَصَبَتِهِ. فَهو عَزِيزُ الجانِبِ بِسَبَبِ عَصَبَتِهِ الكُفّارِ، وقَدْ قالَ تَعالى لِنَبِيِّنا ﷺ: (p-١٩٩)﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ [الضحى: ٦]، أيْ: آواكَ بِأنْ ضَمَّكَ إلى عَمِّكَ أبِي طالِبٍ.
وَذَلِكَ بِسَبَبِ العَواطِفِ العَصَبِيَّةِ، والأواصِرِ النَّسَبِيَّةِ، ولا صِلَةَ لَهُ بِالدِّينِ البَتَّةَ، فَكَوْنُهُ جَلَّ وعَلا يَمْتَنُّ عَلى رَسُولِهِ ﷺ بِإيواءِ أبِي طالِبٍ لَهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ قَدْ يُنْعِمُ عَلى المُتَمَسِّكِ بِدِينِهِ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الكافِرِ.
وَمِن ثَمَراتِ تِلْكَ العَصَبِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ قَوْلُ أبِي طالِبٍ:
؎واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفِينا
؎فاصْدَعْ بِأمْرِكَ ما عَلَيْكَ غَضاضَةٌ ∗∗∗ أبْشِرْ بِذاكَ وقَرَّ مِنهُ عُيُونا
وَقَوْلُهُ أيْضًا:
؎وَنَمْنَعُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ ∗∗∗ ونُذْهَلَ عَنْ أبْنائِنا والحَلائِلِ
وَلِهَذا لَمّا كانَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ لَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ في قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ظَهَرَ فِيهِ أثَرُ عَدَمِ العَصَبَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى عَنْهُ: ﴿قالَ لَوْ أنَّ لِي بِكم قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٨٠] .
وَهَذِهِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ تَنْفَعُهم عَصَبِيَّةُ إخْوانِهِمُ الكافِرِينَ.
وَلَمّا ناصَرَ بَنُو المُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ بَنِي هاشِمٍ، ولَمْ يُناصِرْهم بَنُو عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ، وبَنُو نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ - عَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ لِبَنِي المُطَّلِبِ تِلْكَ المُناصَرَةَ الَّتِي هي عَصَبِيَّةٌ نَسَبِيَّةٌ لا صِلَةَ لَها بِالدِّينِ، فَأعْطاهم مِن خُمُسِ الغَنِيمَةِ مَعَ بَنِي هاشِمٍ، وقالَ: «إنّا وبَنِي المُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ في جاهِلِيَّةٍ ولا إسْلامٍ» ومَنَعَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وبَنِي نَوْفَلٍ مِن خُمُسِ الغَنِيمَةِ، مَعَ أنَّ الجَمِيعَ أوْلادُ عَبْدِ مَنافِ بْنِ قُصَيٍّ.
وَقالَ أبُو طالِبٍ في بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وبَنِي نَوْفَلٍ:
؎جَزى اللَّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلًا ∗∗∗ عُقُوبَةَ شَرٍّ عاجِلٍ غَيْرَ آجِلِ
؎بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَخِيسُ شَعِيرَةً ∗∗∗ لَهُ شاهِدٌ مِن نَفْسِهِ غَيْرُ عائِلِ
؎لَقَدْ سَفَهَتْ أحْلامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا ∗∗∗ بَنِي خَلْفٍ قَيْضًا بِنا والغَياطِلِ
والغَياطِلُ ”بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ“، ومُرادُ أبِي طالِبٍ بِهِمْ: بَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ”القَبِيلَةُ المَشْهُورَةُ مِن قَبائِلِ قُرَيْشٍ“، وإنَّما سُمُّوا الغَياطِلَ؛ لِأنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ الَّذِي هو مِن ساداتِ قُرَيْشٍ العِظامِ، وهو الَّذِي يَعْنِيهِ عَبْدُ المُطَّلِبِ بِقَوْلِهِ يُرَقِّصُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ وهو صَغِيرٌ:
؎كَأنَّهُ في العِزِّ قَيْسُ بْنُ عَدِيٍّ ∗∗∗ في دارِ سَعْدٍ يَنْتَدِي أهْلَ النَّدى
(p-٢٠٠)تَزَوَّجَ امْرَأةً مِن كِنانَةَ تُسَمّى ”الغَيْطَلَةَ“ وهي أُمُّ بَعْضِ أوْلادِهِ. فَسُمِّيَ بَنُو سَهْمِ الغَياطِلَ؛ لِأنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ المَذْكُورَ سَيِّدُهم.
فَهَذِهِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ قَدْ يُعِينُ المُؤْمِنَ بِالكافِرِ لِتَعَصُّبِهِ لَهُ، ورُبَّما كانَ لِذَلِكَ أثَرٌ حَسَنٌ عَلى الإسْلامِ والمُسْلِمِينَ، وقَدْ يَكُونُ مِن مِنَنِ اللَّهِ عَلى بَعْضِ أنْبِيائِهِ المُرْسَلِينَ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، وفي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذا الدَّينَ بِالرَّجُلِ الفاجِرِ»، وفي المَثَلِ: ”اجْتَنِ الثِّمارَ وألْقِ الخَشَبَةَ في النّارِ“ .
فَإذا عَرَفْتَ دَلالَةَ القُرْآنِ عَلى أنَّ المُسْلِمَ قَدْ يَنْتَفِعُ بِرابِطَةِ نَسَبٍ وعَصَبِيَّةٍ مِن كافِرٍ، فاعْلَمْ أنَّ النِّداءَ بِالرَّوابِطِ العَصَبِيَّةِ لا يَجُوزُ. لِإجْماعِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ المُسْلِمَ لا يَجُوزُ لَهُ الدُّعاءُ بِـ ”يا لَبَنِي فُلانٍ“ ونَحْوِها.
وَقَدْ ثَبَتَ في ”صَحِيحِ البُخارِيِّ“ مِن حَدِيثِ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في تِلْكَ الدَّعْوَةِ: «دَعُوها فَإنَّها مُنْتِنَةٌ»، وقَوْلُهُ ﷺ: ”دَعُوها“ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ تَرْكِها؛ لِأنَّ صِيغَةَ ”افْعَلْ“ لِلْوُجُوبِ إلّا لِدَلِيلٍ صارِفٍ عَنْهُ، ولَيْسَ هُنا دَلِيلٌ صارِفٌ عَنْهُ، ويُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ الأمْرَ بِتَرْكِها بِأنَّها مُنْتِنَةٌ، وما صَرَّحَ النَّبِيُّ ﷺ بِالأمْرِ بِتَرْكِهِ وأنَّهُ مُنْتِنٌ لا يَجُوزُ لِأحَدٍ تَعاطِيهِ، وإنَّما الواجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ النِّداءُ بِرابِطَةِ الإسْلامِ الَّتِي هي مِن شِدَّةِ قُوَّتِها تَجْعَلُ المُجْتَمَعَ الإسْلامِيَّ كُلَّهُ كَأنَّهُ جَسَدُ إنْسانٍ واحِدٍ، فَهي تَرْبِطُكَ بِأخِيكَ المُسْلِمِ كَرَبْطِ أعْضائِكَ بَعْضِها بِبَعْضٍ، قالَ ﷺ: «إنَّ مَثَلَ المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ، إذا اشْتَكى مِنهُ عُضْوٌ تَداعى لَهُ سائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمّى» .
وَإذا تَأمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢]، تَحَقَّقْتَ أنَّ الرَّوابِطَ النَّسَبِيَّةَ تَتَلاشى مَعَ الرَّوابِطِ الإسْلامِيَّةِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وقالَ: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١] .
وَلا يَخْفى أنَّ أسْلافَنا مَعاشِرَ المُسْلِمِينَ إنَّما فَتَحُوا البِلادَ ومَصَّرُوا الأمْصارَ بِالرّابِطَةِ الإسْلامِيَّةِ، لا بِرَوابِطَ عَصَبِيَّةٍ، ولا بِأواصِرَ نَسَبِيَّةٍ.
{"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰشُعَیۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِیرࣰا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِینَا ضَعِیفࣰاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَـٰكَۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡنَا بِعَزِیزࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











