الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ . ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ لُوطًا عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ، لَمّا جاءَتْهُ رُسُلُ رَبِّهِ مِنَ المَلائِكَةِ حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ مَساءَةٌ عَظِيمَةٌ ضاقَ صَدْرُهُ بِها، وأشارَ في مَواضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ إلى أنَّ سَبَبَ مَساءَتِهِ وكَوْنِهِ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ: أنَّهُ ظَنَّ أنَّهم ضُيُوفٌ مِن بَنِي آدَمَ، كَما ظَنَّهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وظَنَّ أنَّ قَوْمَهُ يَنْتَهِكُونَ حُرْمَةَ ضُيُوفِهِ فَيَفْعَلُونَ بِهِمْ فاحِشَةَ اللِّواطِ؛ لِأنَّهم إنْ عَلِمُوا بِقُدُومِ (p-١٨٨)ضَيْفٍ فَرِحُوا واسْتَبْشَرُوا بِهِ لِيَفْعَلُوا بِهِ الفاحِشَةَ المَذْكُورَةَ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُ هُنا: ﴿وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ ومِن قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ ياقَوْمِ هَؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أطْهَرُ لَكم فاتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِي في ضَيْفِي ألَيْسَ مِنكم رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾ ﴿قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا في بَناتِكَ مِن حَقٍّ وإنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ﴾ [هود: ٧٨، ٧٩] . وَقَوْلُهُ في ”الحِجْرِ“: ﴿وَجاءَ أهْلُ المَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ﴿قالَ إنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ﴾ ﴿قالُوا أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمِينَ﴾ ﴿قالَ هَؤُلاءِ بَناتِي إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٦٧ - ٧٢] . وَقَوْلُهُ: يُهْرَعُونَ [هود: ٧٨]، أيْ: يُسْرِعُونَ ويُهَرْوِلُونَ مِن فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ مُهَلْهِلٍ: ؎فَجاءُوا يُهْرَعُونَ وهم أُسارى تَقُودُهم عَلى رَغْمِ الأُنُوفِ وَقَوْلُهُ: ولا تُخْزُونِ، أيْ: لا تُهِينُونِ ولا تُذِلُّونِ بِانْتِهاكِ حُرْمَةِ ضَيْفِي، والِاسْمُ مِنهُ: الخِزْيُ بِكَسْرِ الخاءِ وإسْكانِ الزّايِ. ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ في عُتْبَةَ بْنِ أبِي وقّاصٍ: ؎فَأخْزاكَ رَبِّي يا عُتَيْبُ بْنَ مالِكٍ ∗∗∗ ولَقّاكَ قَبْلَ المَوْتِ إحْدى الصَّواعِقِ وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: قَوْلُهُ: ولا تُخْزُونِ [الحجر: ٦٩] مِنَ الخَزايَةِ، وهي الخَجَلُ والِاسْتِحْياءُ مِنَ الفَضِيحَةِ، أيْ لا تَفْعَلُوا بِضَيْفِي ما يَكُونُ سَبَبًا في خَجَلِي واسْتِحْيائِي، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ ثَوْرًا وحْشِيًّا تُطارِدُهُ الكِلابُ في جانِبِ حَبْلٍ مِنَ الرَّمْلِ: ؎حَتّى إذا دَوَّمَتْ في الأرْضِ راجَعَهُ ∗∗∗ كِبْرٌ ولَوْ شاءَ نَجّى نَفْسَهُ الهَرَبُ ؎خَزايَةٌ أدْرَكَتْهُ بَعْدَ جَوْلَتِهِ ∗∗∗ مِن جانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطًا بِها الغَضَبُ يَعْنِي أنَّ هَذا الثَّوْرَ لَوْ شاءَ نَجا مِنَ الكِلابِ بِالهَرَبِ، ولَكِنَّهُ اسْتَحْيا وأنِفَ مِنَ الهَرَبِ فَكَرَّ راجِعًا إلَيْها، ومِنهُ قَوْلُهُ الآخَرُ: ؎أجاعِلَةٌ أُمَّ الثُّوَيْرِ خَزايَةً عَلى ∗∗∗ فِرارِي أنْ لَقِيتُ بَنِي عَبْسِ والفِعْلُ مِنهُ: خَزِيَ يَخْزى، كَرَضِيَ يَرْضى، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎مِنَ البِيضِ لا تَخْزى إذا الرِّيحُ ألْقَعَتْ ∗∗∗ بِها مِرْطَها أوْ زايَلَ الحَلى جِيدُها وَقَوْلُ الآخَرِ: ؎وَإنِّي لا أخْزى إذا قِيلَ مُمْلِقٌ ∗∗∗ سَخِيٌّ وأخْزى أنْ يُقالَ بَخِيلُ (p-١٨٩)وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ مَعْناهُ: أُقْسِمُ بِحَياتِكَ، واللَّهُ جَلَّ وعَلا لَهُ أنْ يُقْسِمَ بِما شاءَ مِن خَلْقِهِ، ولَمْ يُقْسِمْ في القُرْآنِ بِحَياةِ أحَدٍ إلّا نَبِيِّنا ﷺ، وفي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ ﷺ ما لا يَخْفى. وَلا يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ أنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ ﷺ: «مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ لَعَمْرُكَ قَسَمِي، وسُمِعَ عَنِ العَرَبِ تَقْدِيمُ الرّاءِ عَلى اللّامِ في لَعَمْرُكَ، فَتَقُولُ فِيها: رَعَمْلُكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎رَعَمْلُكَ إنَّ الطّائِرَ الواقِعَ الَّذِي ∗∗∗ تَعَرَّضَ لِي مِن طائِرٍ لَصَدُوقُ وَقَوْلُهُ: ﴿لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾ [الحجر: ٧٢]، أيْ: عَماهم وجَهْلِهِمْ وضَلالِهِمْ، والعَمَهُ: عَمى القَلْبِ، فَمَعْنى يَعْمَهُونَ [الحجر: ٧٢]: يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لا يَعْرِفُونَ حَقًّا مِن باطِلٍ، ولا نافِعًا مِن ضارٍّ، ولا حَسَنًا مِن قَبِيحٍ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِقَوْلِ لُوطٍ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿هَؤُلاءِ بَناتِي﴾ [هود: ٧٨] في المَوْضِعَيْنِ عَلى أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ أرادَ المُدافَعَةَ عَنْ ضَيْفِهِ فَقَطْ، ولَمْ يُرِدْ إمْضاءَ ما قالَ، وبِهَذا قالَ عِكْرِمَةُ، وأبُو عُبَيْدَةَ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بَناتُهُ لِصُلْبِهِ، وأنَّ المَعْنى: دَعُوا فاحِشَةَ اللِّواطِ وأُزَوِّجُكم بَناتِي، وعَلى هَذا فَتَزْوِيجُ الكافِرِ المُسْلِمَةَ كانَ جائِزًا في شَرْعِهِ، كَما كانَتْ بَناتُ نَبِيِّنا ﷺ تَحْتَ الكُفّارِ في أوَّلِ الإسْلامِ كَما هو مَعْرُوفٌ، وقَدْ أرْسَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِقْدَها الَّذِي زَفَّتْها بِهِ أُمُّها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها إلى زَوْجِها أبِي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، أرْسَلَتْهُ إلَيْهِ في فِداءِ زَوْجِها أبِي العاصِ المَذْكُورِ لَمّا أسَرَهُ المُسْلِمُونَ كافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ، والقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وقَدْ عَقَدَها الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في مَغازِيهِ بِقَوْلِهِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ: وابْنُ الرَّبِيعِ صِهْرُ هادِي المِلَّةِ إذْ في فِداهُ زَيْنَبُ أرْسَلَتْ بِعِقْدِها الَّذِي بِهِ أهْدَتْها لَهُ خَدِيجَةُ وزَفَّفَتْها سَرَّحَهُ بِعَقْدِها وعَهْدًا إلَيْهِ أنْ يَرُدَّها لَهُ غَدا إلَخْ. . . القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِالبَناتِ: جَمِيعُ نِساءِ قَوْمِهِ؛ لِأنَّ نَبِيَّ القَوْمِ أبٌ دِينِيٌّ لَهم، (p-١٩٠)كَما يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى في نَبِيِّنا ﷺ: ﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٦] وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ”وَأزْواجُهُ أُمَّهاتُهم وهو أبٌ لَهم“ ورُوِيَ نَحْوُها عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهَذا القَوْلِ قالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ. وَهَذا القَوْلُ تُقَرِّبُهُ قَرِينَةٌ وتُبْعِدُهُ أُخْرى، أمّا القَرِينَةُ الَّتِي تُقَرِّبُهُ فَهي: أنَّ بَناتَ لُوطٍ لا تَسَعُ جَمِيعَ رِجالِ قَوْمِهِ كَما هو ظاهِرٌ، فَإذا زَوَّجَهُنَّ لِرِجالٍ بِقَدْرِ عَدَدِهِنَّ بَقِيَ عامَّةُ رِجالِ قَوْمِهِ لا أزْواجَ لَهم، فَيَتَعَيَّنُ أنَّ المُرادَ عُمُومُ نِساءِ قَوْمِهِ، ويَدُلُّ لِلْعُمُومِ قَوْلُهُ: ﴿أتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ العالَمِينَ﴾ ﴿وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكم رَبُّكم مِن أزْواجِكُمْ﴾ [الشعراء: ١٦٥، ١٦٦]، وقَوْلُهُ: ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ﴾ [النمل: ٥٥]، ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَأمّا القَرِينَةُ الَّتِي تُبْعِدُهُ: فَهي أنَّ النَّبِيَّ لَيْسَ أبًا لِلْكافِراتِ، بَلْ أُبُوَّةُ الأنْبِياءِ الدِّينِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الكافِرِينَ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٦] . وَقَدْ صَرَّحَ تَعالى في ”الذّارِياتِ“: بِأنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَيْسَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ إلّا أهْلَ بَيْتٍ واحِدٍ وهم أهْلُ بَيْتِ لُوطٍ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿فَما وجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٦] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب