الباحث القرآني
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ .
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ”ذَلِكَ“ فَقِيلَ: ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾، (p-٣٠٦)وَلِلرَّحْمَةِ ”خَلَقَهم“، والتَّحْقِيقُ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ هو اخْتِلافُهم إلى شَقِيٌّ وسَعِيدٍ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ ولِذَلِكَ الِاخْتِلافِ خَلَقَهم فَخَلَقَ فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وفَرِيقًا لِلسَّعِيرِ، كَما نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ١٧٩]، وأخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحِيهِما مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ المَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ: فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وأجَلَهُ وعَمَلَهُ وشَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ»، ورَوى مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «يا عائِشَةُ ! إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الجَنَّةَ وخَلَقَ لَها أهْلًا، وهم في أصْلابِ آبائِهِمْ، وخَلَقَ النّارَ وخَلَقَ لَها أهْلًا وهم في أصْلابِ آبائِهِمْ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقادِيرَ الخَلْقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ» .
وَإذا تَقَرَّرَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ خَلَقَهم لِسَعادَةِ بَعْضٍ وشَقاوَةِ بَعْضٍ، كَما قالَ: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ﴾ الآيَةَ وقالَ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢] فَلا يَخْفى ظُهُورُ التَّعارُضِ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] .
والجَوابُ عَنْ هَذا مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: ونَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ وسُفْيانَ أنَّ مَعْنى الآيَةِ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أيْ يَعْبُدُنِي السُّعَداءُ مِنهم ويَعْصِينِي الأشْقِياءُ، فالحِكْمَةُ المَقْصُودَةُ مِن إيجادِ الخَلْقِ الَّتِي هي عِبادَةُ اللَّهِ حاصِلَةٌ بِفِعْلِ السُّعَداءِ مِنهم، كَما أشارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] .
وَغايَةُ ما يَلْزَمُ عَلى هَذا القَوْلِ أنَّهُ أطْلَقَ المَجْمُوعَ وأرادَ بَعْضَهم، وقَدْ بَيَّنّا أمْثالَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الَّتِي أُطْلِقَ فِيها المَجْمُوعُ مُرادًا بَعْضُهُ في سُورَةِ ”الأنْفالِ“ .
(p-٣٠٧)الوَجْهُ الثّانِي: هو ما رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أيْ إلّا لِيُقِرُّوا إلَيَّ بِالعُبُودِيَّةِ طَوْعًا أوْ كَرْهًا، لِأنَّ المُؤْمِنَ يُطِيعُ بِاخْتِيارِهِ، والكافِرَ مُذْعِنٌ مُنْقادٌ لِقَضاءِ رَبِّهِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: ويَظْهَرُ لِي أنَّهُ هو الحَقُّ، لِدَلالَةِ القُرْآنِ عَلَيْهِ، أنَّ الإرادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ إرادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، والإرادَةُ في قَوْلِهِ: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ إرادَةٌ شَرْعِيَّةٌ دِينِيَّةٌ، فَبَيَّنَ في قَوْلِهِ: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ أنَّهُ أرادَ بِإرادَتِهِ الكَوْنِيَّةِ القَدَرِيَّةِ صَيْرُورَةَ قَوْمٍ إلى السَّعادَةِ، وآخَرِينَ إلى الشَّقاوَةِ.
وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أنَّهُ يُرِيدُ العِبادَةَ بِإرادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةَ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ، فَيُوَفِّقُ مَن شاءَ بِإرادَتِهِ الكَوْنِيَّةِ فَيَعْبُدُهُ ويَخْذُلُ مَن شاءَ فَيَمْتَنِعُ مِنَ العِبادَةِ.
وَوَجْهُ دَلالَةِ القُرْآنِ عَلى هَذا أنَّهُ تَعالى بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤]، فَعَمَّمَ الإرادَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا لِيُطاعَ﴾ وبَيَّنَ التَّخْصِيصَ في الطّاعَةِ بِالإرادَةِ الكَوْنِيَّةِ، بِقَوْلِهِ: بِإذْنِ اللَّهِ فالدَّعْوَةُ عامَّةٌ والتَّوْفِيقُ خاصٌّ.
وَتَحْقِيقُ النِّسْبَةِ بَيْنَ الإرادَةِ الكَوْنِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ والإرادَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ أنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى وُجُودِ المُرادِ وعَدَمِ وُجُودِهِ، فالإرادَةُ الكَوْنِيَّةُ أعَمُّ مُطْلَقًا، لِأنَّ كُلَّ مُرادٍ شَرْعًا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ في الخارِجِ إذا أُرِيدَ كَوْنًا وقَدَرًا، كَإيمانِ أبِي بَكْرٍ، ولَيْسَ يُوجَدُ ما لَمْ يُرَدْ كَوْنًا وقَدَرًا ولَوْ أُرِيدَ شَرْعًا كَإيمانِ أبِي لَهَبٍ، فَكُلُّ مُرادٍ شَرْعِيٍّ حَصَلَ فَبِالإرادَةِ الكَوْنِيَّةِ ولَيْسَ كُلُّ مُرادٍ كَوْنِيٍّ حَصَلَ مُرادًا في الشَّرْعِ.
وَأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى تَعَلُّقِ الإرادَتَيْنِ بِعِبادَةِ الإنْسِ والجِنِّ لِلَّهِ تَعالى، فالإرادَةُ الشَّرْعِيَّةُ أعَمُّ مُطْلَقًا والإرادَةُ الكَوْنِيَّةُ أخَصُّ مُطْلَقًا، لِأنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الجِنِّ والإنْسِ أرادَ اللَّهُ مِنهُ العِبادَةَ شَرْعًا ولَمْ يُرِدْها مِن كُلِّهِمْ كَوْنًا وقَدَرًا، فَتَعُمُّ الإرادَةُ الشَّرْعِيَّةُ عِبادَةَ جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، وتَخْتَصُّ الإرادَةُ الكَوْنِيَّةُ بِعِبادَةِ السُّعَداءِ مِنهم كَما قَدَّمْنا مِن أنَّ الدَّعْوَةَ عامَّةٌ والتَّوْفِيقَ خاصٌّ، كَما بَيَّنَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥]، فَصَرَّحَ بِأنَّهُ يَدْعُو الكُلَّ ويَهْدِي مَن شاءَ مِنهم.
وَلَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَ الإرادَةِ الشَّرْعِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ العُمُومُ والخُصُوصُ مِن وجْهٍ بَلْ هي (p-٣٠٨)العُمُومُ والخُصُوصُ المُطْلَقُ، كَما بَيَّنّا إلّا أنَّ إحْداهُما أعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الأُخْرى بِاعْتِبارٍ، والثّانِيَةَ أعَمُّ مُطْلَقًا بِاعْتِبارٍ آخَرَ، كَما بَيَّنّا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق