الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأمّا مَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾ ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ .
وَقَعَ الخِلافُ في المُرادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾، هَلِ المُرادُ بِأُمِّهِ مَأْواهُ وهي النّارُ، وأنَّ هاوِيَةً مِن أسْمائِها، أمِ المُرادُ بِأُمِّهِ رَأْسُهُ وأنَّ هاوِيَةً مِنَ الهُوِيِّ، فَيُلْقى في النّارِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ يَهْوِي في النّارِ.
وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ ذَلِكَ في دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ، ولا يَبْعُدُ مَن يَقُولُ إنَّهُ لا تَعارُضَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ.
فَتَكُونُ ”أُمُّهُ هاوِيَةٌ“، وهي النّارُ ويُلْقى فِيها مُنَكَّسًا تَهْوِي رَأْسُهُ والعِياذُ بِاللَّهِ.
وَحَكى القُرْطُبِيُّ عَلى أنَّ الأُمَّ بِمَعْنى قَوْلِ لَبِيَدٍ:
؎فالأرْضُ مَعْقِلُنا وكانَتْ أُمَّنا فِيها مَقابِرُنا وفِيها نُوَلَدُ
وَعَلى مَعْنى الهاوِيَةِ البَعِيدَةِ والدّاهِيَةِ، قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎يا عَمْرُو لَوْ نالَتْكَ رِماحُنا ∗∗∗ كُنْتَ كَمَن تَهْوِي بِهِ الهاوِيَهْ
والهاوِيَةُ: مَكانُ الهَوِيِّ.
كَما قِيلَ:
؎أكَلْتُ دَمًا إنْ لَمْ أرْعَكِ بِضَرَّةٍ ∗∗∗ بَعِيدَةِ مَهْوى القُرْطِ مَيّاسَةَ القَدّ
أوْ طَيِّبَةَ النَّشْرِ.
وَفِي الحَدِيثِ: «إنَّ أحَدَكم لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لا يَرى بِها بَأْسًا يَهْوِي بِها في النّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» .
نَسْألُ اللَّهَ السَّلامَ.
وَقَدْ فَسَّرَ الهاوِيَةَ بِما بَعْدَها: ﴿وَما أدْراكَ ما هِيَهْ﴾ ﴿نارٌ حامِيَةٌ﴾ [القارعة: ١٠ - ١١] .
(p-٧٥)وَقَدْ فَسَّرَ الهاوِيَةَ بِأنَّها أسْفَلُ دَرَكاتِ النّارِ. عِياذًا بِاللَّهِ.
وَقَدْ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَةِ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما الحُطَمَةُ﴾ ﴿نارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ﴾ [الهمزة: ٤ - ٦] .
والنَّبْذُ: الطَّرْحُ، مِمّا يُرَجِّحُ ما قُلْناهُ مِن إمْكانِ إرادَةِ المَعْنَيَيْنِ كَوْنُ أُمِّهِ هي الهاوِيَةُ أيِ النّارُ، يَهْوِي فِيها عَلى أُمِّ رَأْسِهِ، وذَلِكَ بِالنَّبْذِ في الهاوِيَةِ بَعِيدَةِ المَهْوى، وعادَةُ الجِسْمِ إذا أُلْقِيَ مِن شاهِقٍ بَعِيدًا يُسْبِقُهُ إلى أسْفَلَ أثْقَلُهُ، وأثْقَلُ جِسْمِ الإنْسانِ رَأْسُهُ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
(p-٤٦٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ القارِعَةِ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأمّا مَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ .
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الهاوِيَةَ وصْفٌ لا عَلَمٌ لِلنّارِ، إذْ تَنْوِينُها يُنافِي كَوْنَها اسْمًا مِن أسْماءِ النّارِ، لِأنَّها عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مِن أسْماءِ النّارِ، يَلْزَمُ فِيها المَنعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ. وقَوْلُهُ تَعالى:﴿وَما أدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ﴾ [القارعة: ١٠ - ١١]، يَدُلُّ عَلى أنَّ الهاوِيَةَ مِن أسْماءِ النّارِ.
اعْلَمْ أوَّلًا: أنَّ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ لِلْعُلَماءِ: اثْنانِ مِنها لا إشْكالَ في الآيَةِ عَلَيْهِما، والثّالِثُ: هو الَّذِي فِيهِ الإشْكالُ المَذْكُورُ.
أمّا اللَّذانِ لا إشْكالَ في الآيَةِ عَلَيْهِما، فالأوَّلُ مِنهُما أنَّ المَعْنى: ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ أيْ أُمُّ رَأْسِهِ هاوِيَةٌ في قَعْرِ جَهَنَّمَ، لِأنَّهُ يُطْرَحُ فِيها مَنكُوسًا رَأْسُهُ أسْفَلَ ورِجْلاهُ أعْلى، ورُوِيَ هَذا القَوْلُ عَنْ قَتادَةَ وأبِي صالِحٍ وعِكْرِمَةَ والكَلْبِيِّ وغَيْرِهِمْ، وعَلى هَذا القَوْلِ فالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وَما أدْراكَ ما هِيَهْ﴾، عائِدٌ إلى مَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ، أيْ أُمُّ رَأْسِهِ هاوِيَةٌ في نارٍ، ﴿وَما أدْراكَ ما هِيَهْ﴾ ﴿نارٌ حامِيَةٌ﴾ .
والثّانِي: أنَّهُ مِن قَوْلِ العَرَبِ إذا دَعَوْا عَلى الرَّجُلِ بِالهَلَكَةِ، قالُوا: هَوَتْ أُمُّهُ، لِأنَّهُ إذا هَوى، أيْ سَقَطَ وهَلَكَ، فَقَدْ هَوَتْ أُمُّهُ ثُكْلًا وحُزْنًا، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الغَنَوِيِّ:
؎هَوَتْ أُمُّهُ ما يَبْعَثُ الصُّبْحُ غادِيًا وماذا يَرُدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَؤُوبُ
وَهَذا القَوْلُ رِوايَةٌ أُخْرى عَنْ قَتادَةَ، وعَلى هَذا القَوْلِ فالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ”هِيَهْ“ لِلدّاهِيَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْها الكَلامُ، وذَكَرَ الألُوسِيُّ في تَفْسِيرِهِ أنَّ صاحِبَ الكَشّافِ قالَ: إنَّ هَذا القَوْلَ أحْسَنُ، وأنَّ الطِّيبِيَّ قالَ: إنَّهُ أظْهَرُ، وقالَ هو: ولِلْبَحْثِ فِيهِ مَجالٌ.
(p-٤٦٤)الثّالِثُ: الَّذِي فِيهِ الإشْكالُ، أنَّ المَعْنى ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾، أيْ مَأْواهُ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ، وبِضَمِّهِ هاوِيَةٌ، وهي النّارُ لِأنَّ الأُمَّ تُؤْوِي ولَدَها وتَضُمُّهُ، والنّارُ تَضُمُّ هَذا العاصِيَ، وتَكُونُ مَأْواهُ.
والجَوابُ عَلى هَذا القَوْلِ، هو ما أشارَ لَهُ الألُوسِيُّ في تَفْسِيرِهِ مِن أنَّهُ نَكَّرَ الهاوِيَةَ في مَحَلِّ التَّعْرِيفِ لِأجْلِ الإشْعارِ بِخُرُوجِهِمْ عَنِ المَعْهُودِ لِلتَّفْخِيمِ والتَّهْوِيلِ، ثُمَّ بَعْدَ إبْهامِها لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، قَرَّرَها بِوَصْفِها الهائِلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما أدْراكَ ما هِيَهْ﴾ ﴿نارٌ حامِيَةٌ﴾ .
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذا الجَوابُ الَّذِي ذَكَرَهُ الألُوسِيُّ يَدْخُلُ في حَدِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ البَدِيعِ المَعْنَوِيِّ يُسَمِّيهِ عُلَماءُ البَلاغَةِ التَّجْرِيدَ، فَحَدُّ التَّجْرِيدِ عِنْدَهم هو أنْ يَنْتَزِعَ مِن أمْرٍ ذِي صِفَةٍ آخَرَ مِثْلَهُ فِيها مُبالَغَةً في كَمالِها فِيهِ، وأقْسامُهُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ البَيانِيِّينَ، فَمِنهُ ما يَكُونُ التَّجْرِيدُ فِيهِ بِحَرْفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لِي مِن فُلانٍ صَدِيقٌ حَمِيمٌ، أيْ بَلَغَ مِنَ الصَّداقَةِ حَدًّا صَحَّ مَعَهُ أنْ يَسْتَخْلِصَ مِنهُ آخَرَ مِثْلَهُ فِيها مُبالَغَةً في كَمالِها فِيهِ، وقَوْلِهِمْ: لَئِنْ سَألْتَهُ لَتَسْألَنَّ بِهِ البَحْرَ، بالَغَ في اتِّصافِهِ بِالسَّماحَةِ، حَتّى انْتَزَعَ مِنهُ بَحْرًا في السَّماحَةِ، ومِنَ التَّجْرِيدِ بِواسِطَةِ الحَرْفِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهم فِيها دارُ الخُلْدِ﴾ [فصلت: ٢٨]، وهو أشْبَهُ شَيْءٍ بِالآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها، لِأنَّ النّارَ هي دارُ الخُلْدِ بِعَيْنِها، لَكِنَّهُ انْتَزَعَ مِنها دارًا أُخْرى، وجَعَلَها مُعَدَّةً في جَهَنَّمَ لِلْكُفّارِ تَهْوِيلًا لِأمْرِها، ومُبالَغَةً في اتِّصافِها بِالشِّدَّةِ، ومِنَ التَّجْرِيدِ ما يَكُونُ مِن غَيْرِ تَوَسُّطِ الحَرْفِ، نَحْوَ قَوْلِ قَتادَةَ بْنِ سَلَمَةَ الحَنَفِيِّ:
؎وَلَئِنْ بَقِيتُ لَأرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ∗∗∗ تَحْوِي الغَنائِمَ أوْ يَمُوتُ كَرِيمُ
يَعْنِي نَفْسَهُ انْتَزَعَ مِن نَفْسِهِ كَرِيمًا مُبالَغَةً في كَرَمِهِ، فَإذا عَرَفْتَ هَذا فالنّارُ سُمِّيَتِ الهاوِيَةَ لِغايَةِ عُمْقِها، وبُعْدِ مَهْواها، فَقَدْ رُوِيَ أنَّ داخِلَها يَهْوِي فِيها سَبْعِينَ خَرِيفًا، وخَصَّها البَعْضُ بِالبابِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ، فانْتَزَعَ مِنها هاوِيَةً أُخْرى مِثْلَها في شِدَّةِ العُمْقِ، وبُعْدِ المَهْوى مُبالَغَةً في عُمْقِها، وبُعْدِ مَهْواها، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَأَمَّا مَنۡ خَفَّتۡ مَوَ ٰزِینُهُۥ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق