الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ ﴿فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ . فِي قَوْلِهِ: ﴿ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ دَلالَةٌ عَلى وقْعِ الوَزْنِ لِكُلِّ إنْسانٍ. والمَوازِينُ: يُرادُ بِها المَوْزُونُ، ويُرادُ بِها آلَةُ الوَزْنِ، كالمَعايِيرِ، وهُما مُتَلازِمانِ. وَتَقَدَّمَ أنَّ المَعايِيرَ بِالذَّرَّةِ وأقَلَّ مِنها. وَقَدْ جاءَ نُصُوصٌ عَلى وضْعِ المَوازِينِ وإقامَتِها بِالعَدْلِ والقِسْطِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ بَيانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها وكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] . (p-٧٣)وَقَوْلُهُ: ﴿فَهو في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾، قالُوا: بِمَعْنى مُرْضِيَّةٍ، وراضِيَةٌ أصْلُها مُرْضِيَّةٌ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ﴾ ﴿لِسَعْيِها راضِيَةٌ﴾ [الغاشية: ٨ - ٩]، إسْنادُ الرِّضى لِلْعِيشَةِ، عَلى أنَّها هي فاعِلَةُ الرِّضى؛ لِأنَّ كَلِمَةَ العِيشَةِ جامِعَةٌ لِنَعِيمِ الجَنَّةِ وأسْبابِ النَّعِيمِ، راضِيَةٌ طائِعَةٌ لَيِّنَةٌ لِأصْحابِ الجَنَّةِ، فَتُفَجَّرُ لَهُمُ الأنْهارُ طَواعِيَةً، وتَدْنُو الثِّمارُ طَواعِيَةً، كَما في قَوْلِهِ: ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ٢٣] . فالقَوْلُ الأوَّلُ: هو المَعْرُوفُ في البَلاغَةِ بِإطْلاقِ المَحَلِّ وإرادَةِ الحالِّ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ [العلق: ١٧] . والنّادِي: مَكانُ مُنْتَدى القَوْمِ، أيْ يُنادِي بَعْضُهم بَعْضًا لِلِاجْتِماعِ فِيهِ. والمُرادُ: مَن يَحُلُّ في هَذا النّادِي، ويَكُونُ هُنا أطْلَقَ المَحَلَّ وهو مَحَلُّ العِيشَةِ، وأرادَ الحالَّ فِيها. وَعَلى الثّانِي: فَهو إسْنادٌ حَقِيقِيٌّ مِن إسْنادِ الرِّضى لِمَن وقَعَ مِنهُ أوْ قامَ بِهِ. ومِمّا هو جَدِيرٌ بِالذِّكْرِ أنَّ حَمْلَهُ عَلى الأُسْلُوبِ البَيانِيِّ لَيْسَ مُتَّجَهًا كالآيَةِ الأُخْرى؛ لِأنَّ العِيشَةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِغَيْرِها بَلْ هي حالَّةٌ، والمَحَلُّ الحَقِيقِيُّ هو الجَنَّةُ والعِيشَةُ حالَّةٌ فِيها، وهي اسْمٌ لِمَعانِي النَّعِيمِ كَما تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ حَمْلُ الإسْنادِ عَلى الحَقِيقَةِ أصَحُّ. وَقَدْ جاءَتِ الأحادِيثُ: أنَّ الجَنَّةَ تُحِسُّ بِأهْلِها وتَفْرَحُ بِعَمَلِ الخَيْرِ، كَما أنَّها تَتَزَيَّنُ وتَبْتَهِجُ في رَمَضانَ، وأنَّها تَناظَرَتْ مَعَ النّارِ. وكُلٌّ يُدْلِي بِأهْلِهِ وفَرَحِهِ بِهِمْ، حَتّى وعَدَ اللَّهُ كُلًّا بِمِلْئِها. وَنُصُوصُ تَلَقِّي الحُورِ والوِلْدانِ والمَلائِكَةِ في الجَنَّةِ لِأهْلِ الجَنَّةِ بِالرِّضى والتَّحِيَّةِ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَهم فِيها فاكِهَةٌ ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ [يس: ٥٧]، أيْ: لا يَتَأخَّرُ عَنْهم شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَقالَ لَهم خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكم طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] . وَقَوْلُهُ: ﴿فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهم ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٥٦] . وَقاصِراتُ الطَّرْفِ عَنْ رِضًى بِأهْلِهِنَّ. ومِنهُ ﴿حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ﴾ [الرحمن: ٧٢]، أيْ عَلى أزْواجِهِنَّ. (p-٧٤)وَقَوْلُهُ: ﴿وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا﴾ [الإنسان: ١٤]، ونَحْوُ ذَلِكَ، مِمّا يُشْعِرُ بِأنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ بِنَفْسِهِ راضٍ بِأهْلِ الجَنَّةِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب