الباحث القرآني
سُورَةُ بَراءَةَ مَدَنِيَّةٌ، وهي مِائَةٌ وتِسْعٌ وعِشْرُونَ آيَةً
وَلَها أسْماءُ أُخَرُ: سُورَةُ العَذابِ؛ لِما فِيها مِن ذِكْرِ التَّوْبَةِ، ومِنَ التَّبْرِيَةِ مِنَ النِّفاقِ، والبَحْثِ والتَّنْقِيرِ عَنْ حالِ المُنافِقِينَ وإثارَتِها والحَفْرِ عَنْها، وما يُخْزِيهِمْ ويُشَرِّدُهم ويُدَمْدِمُ عَلَيْهِمْ.
واشْتِهارُها بِهَذِهِ الأسْماءِ يَقْضِي بِأنَّها سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، ولَيْسَتْ بَعْضًا مِن سُورَةِ الأنْفال، وادِّعاءُ اخْتِصاصِ الِاشْتِهارِ بِالقائِلِينَ بِاسْتِقْلالِها خِلافُ الظّاهِرِ، فَيَكُونُ حِكْمَةُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ النُّزُولِ نُزُولُها في رَفْعِ الأمانِ الَّذِي يَأْبى مَقامُهُ التَّصْدِيرَ بِما يُشْعِرُ بِبَقائِهِ مِن ذِكْرِ اسْمِهِ تَعالى مَشْفُوعًا بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا الِاشْتِباهُ في اسْتِقْلالِها وعَدَمِهِ كَما يُحْكى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ولا رِعايَةُ ما وقَعَ بَيْنَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - مِنَ الِاخْتِلافِ في ذَلِكَ، عَلى أنَّ ذَلِكَ يَنْزِعُ إلى القَوْلِ بِأنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ القرآن وإنَّما كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورِ، كَما نُقِلَ عَنْ قُدَماءِ الحَنَفِيَّةِ، وأنَّ مَناطَ إثْباتِها في المَصاحِفِ وتَرْكِها إنَّما هو رَأْيُ مَن تَصَدّى لِجَمْعِ القرآن دُونَ التَّوْقِيفِ، ولا رَيْبَ في أنَّ الصَّحِيحَ مِنَ المَذْهَبِ أنَّها آيَةٌ فَذَّةٌ مِنَ القرآن أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ والتَّبَرُّكِ بِها، وأنْ لا مَدْخَلَ لِرَأْيِ أحَدٍ في الإثْباتِ والتَّرْكِ، وإنَّما المُتَّبَعُ في ذَلِكَ هو الوَحْيُ والتَّوْقِيفُ ولا مِرْيَةَ في عَدَمِ نُزُولِها هَهُنا، وإلّا لامْتَنَعَ أنْ يَقَعَ في الِاسْتِقْلالِ اشْتِباهٌ أوِ اخْتِلافٌ، فَهو إمّا لِاتِّحادِ السُّورَتَيْنِ أوْ لِما ذَكَرْنا، لا سَبِيلَ إلى الأوَّلِ، وإلّا لَبَيَّنَهُ ﷺ لِتَحَقُّقِ مَزِيدِ الحاجَةِ إلى البَيانِ، لِتَعاضُدِ أدِلَّةِ الِاسْتِقْلالِ: مِن كَثْرَةِ الآياتِ، وطُولِ المُدَّةِ فِيما بَيْنَ نُزُولِهِما، فَحَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْهُ ﷺ تَعَيَّنَ الثّانِي؛ لِأنَّ عَدَمَ البَيانِ مِنَ الشّارِعِ في مَوْضِعِ البَيانِ بَيانٌ لِلْعَدَمِ.
﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾
﴿بَراءَةٌ﴾ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وتَنْوِينُهُ لِلتَّفْخِيمِ، وقُرِئَ بِالنَّصْبِ، أيِ: اسْمَعُوا بَراءَةً ومِن في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ ابْتِدائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَها؛ لِيُفِيدَها زِيادَةَ تَفْخِيمٍ وتَهْوِيلٍ، أيْ: هَذِهِ بَراءَةٌ مُبْتَدَأةٌ مِن جِهَةِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ وصِلَةٌ ﴿إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ وإنَّما لَمْ يَذْكُرْ ما تُعَلَّقُ بِهِ البَراءَةُ حَسْبَما ذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ اكْتِفاءً بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، فَإنَّهُ مُنْبِئٌ عَنْهُ إنْباءً ظاهِرًا، واحْتِرازًا عَنْ تَكْرِيرِ لَفْظَةِ (مِن) وقِيلَ: هي مُبْتَدَأٌ لِتَخَصُّصِها بِالصِّفَةِ، وخَبَرُهُ (إلى الَّذِينَ)... إلَخْ، والَّذِي تَقْتَضِيهِ جَزالَةُ النَّظْمِ هو الأوَّلُ؛ لِأنَّ هَذِهِ البَراءَةَ أمْرٌ حادِثٌ لَمْ يُعْهَدْ عِنْدَ المُخاطَبِينَ ذاتُها ولا عُنْوانُ ابْتِدائِها مِنَ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ، حَتّى يَخْرُجَ ذَلِكَ العُنْوانُ مَخْرَجَ الصِّفَةِ لَها، ويُجْعَلَ المَقْصُودَ بِالذّاتِ، والعُمْدَةُ في الإخْبارِ شَيْئًا آخَرَ، هو وُصُولُها إلى المُعاهَدِينَ، وإنَّما الحَقِيقُ بِأنْ يُعْتَنى بِإفادَتِهِ حُدُوثُ تِلْكَ (p-40)البَراءَةِ مِن جِهَتِهِ تَعالى، ووُصُولُها إلَيْهِمْ، فَإنْ حَقَّ الصِّفاتِ قَبْلَ عِلْمِ المُخاطَبِ بِثُبُوتِها لِمَوْصُوفاتِها أنْ تَكُونَ أخْبارًا، وحَقَّ الأخْبارِ بَعْدَ العِلْمِ بِثُبُوتِها لِما هي لَهُ أنْ تَكُونَ صِفاتٍ، كَما حُقِّقَ في مَوْضِعِهِ.
وَقُرِئَ (مِنِ اللَّهِ) بِكَسْرِ النُّونِ، عَلى أنَّ الأصْلَ في تَحْرِيكِ السّاكِنِ الكَسْرُ، ولَكِنَّ الوَجْهَ هو الفَتْحُ في لامِ التَّعْرِيفِ خاصَّةً؛ لِكَثْرَةِ الوُقُوعِ، والعَهْدُ العَقْدُ المُوَثَّقُ بِاليَمِينِ، والخِطابُ في عاهَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وقَدْ كانُوا عاهَدُوا مُشْرِكِي العَرَبِ مِن أهْلِ مَكَّةَ وغَيْرِهِمْ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى واتِّفاقِ الرَّسُولِ ﷺ فَنَكَثُوا إلّا بَنِي ضَمْرَةَ، وبَنِي كِنانَةَ، فَأُمِرَ المُسْلِمُونَ بِنَبْذِ العَهْدِ إلى النّاكِثِينَ، وأُمْهِلُوا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ؛ لِيَسِيرُوا أيْنَ شاءُوا، وإنَّما نُسِبَتِ البَراءَةُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ - مَعَ شُمُولِها لِلْمُسْلِمِينَ، واشْتِراكِهِمْ في حُكْمِها، ووُجُوبِ العَمَلِ بِمُوجِبِها، وعُلِّقَتِ المُعاهَدَةُ بِالمُسْلِمِينَ خاصَّةً مَعَ كَوْنِها بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، واتِّفاقِ الرَّسُولِ ﷺ - لِلْإنْباءِ عَنْ تَنَجُّزِها وتَحَتُّمِها مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى رَأْيِ المُخاطَبِينَ؛ لِأنَّها عِبارَةٌ عَنْ إنْهاءِ حُكْمِ الأمانِ، ورَفْعِ الخَطَرِ المُتَرَتِّبِ عَلى العَهْدِ السّابِقِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْكَفَرَةِ، وذَلِكَ مَنُوطٌ بِجَنابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لِأنَّهُ أمْرٌ كَسائِرِ الأوامِرِ الجارِيَةِ عَلى حَسَبِ حِكْمَةٍ تَقْتَضِيها وداعِيَةٍ تَسْتَدْعِيها، تَتَرَتَّبُ عَلَيْها آثارُها مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى شَيْءٍ أصْلًا.
واشْتِراكُ المُسْلِمِينَ في حُكْمِها ووُجُوبِ العَمَلِ بِمُوجِبِها إنَّما هو عَلى طَرِيقَةِ الِامْتِثالِ بِالأمْرِ، لا عَلى أنْ يَكُونَ لَهم مَدْخَلٌ في إتْمامِها، أوْ في تَرَتُّبِ أحْكامِها عَلَيْها، وأمّا المُعاهَدَةُ فَحَيْثُ كانَتْ عَقْدًا كَسائِرِ العُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ - لا تَتَحَصَّلُ في نَفْسِها، ولا تَتَرَتَّبُ عَلَيْها أحْكامُها إلّا بِمُباشَرَةِ المُتَعاقِدِينَ عَلى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ اعْتَبَرَها الشَّرْعُ - لَمْ يُتَصَوَّرْ صُدُورُها عَنْهُ سُبْحانَهُ، وإنَّما الصّادِرُ عَنْهُ في شَأْنِها هو الإذْنُ فِيها، وإنَّما الَّذِي يُباشِرُها ويَتَوَلّى أمْرَها المُسْلِمُونَ، ولا يَخْفى أنَّ البَراءَةَ إنَّما تَتَعَلَّقُ بِالعَهْدِ لا بِالإذْنِ فِيهِ، فَنُسِبَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما إلى مَن هو أصْلٌ فِيها، عَلى أنَّ في ذَلِكَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ البَراءَةِ، وتَهْوِيلًا لِأمْرِها، وتَسْجِيلًا عَلى الكَفَرَةِ بِغايَةِ الذُّلِّ والهَوانِ، ونِهايَةِ الخِزْيِ والخِذْلانِ، وتَنْزِيهًا لِساحَةِ السُّبْحانِ والكِبْرِياءِ عَمّا يُوهِمُ شائِبَةَ النَّقْصِ والنَّداءِ، تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَإدْراجُهُ ﷺ في النِّسْبَةِ الأُولى وإخْراجُهُ عَنِ الثّانِيَةِ لِتَنْوِيهِ شَأْنِهِ الرَّفِيعِ، وإجْلالِ قَدْرِهِ المَنِيعِ في كِلا المَقامَيْنِ ﷺ وإيثارُ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلى الفِعْلِيَّةِ - كَأنْ يُقالُ: قَدْ بَرِئَ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِنَ الَّذِينَ أوْ نَحْوُ ذَلِكَ - لِلدَّلالَةِ عَلى دَوامِها واسْتِمْرارِها، ولِلتَّوَسُّلِ إلى تَهْوِيلِها بِالتَّنْوِينِ التَّفْخِيمِيِّ، كَما أُشِيرَ إلَيْهِ.
{"ayah":"بَرَاۤءَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق