الباحث القرآني

﴿كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ﴾ الكافُ في مَحْلِ الرَّفْعِ، عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الحالُ كَحالِ إخْراجِكَ، يَعْنِي: أنَّ حالَهم في كَراهَتِهِمْ لِما رَأيْتَ - مَعَ كَوْنِهِ حَقًّا - كَحالِهِمْ في كَراهَتِهِمْ لِخُرُوجِكَ لِلْحَرْبِ وهو حَقٌّ، أوْ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الأنْفالُ لِلَّهِ﴾ أيِ: الأنْفالُ ثَبَتَتْ لِلَّهِ والرَّسُولِ مَعَ كَراهَتِهِمْ ثَباتًا مِثْلَ ثَباتِ إخْراجِ رَبِّكَ إيّاكَ مِن بَيْتِكَ في المَدِينَةِ، أوْ مِنَ المَدِينَةِ إخْراجًا مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ. ﴿وَإنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ﴾ أيْ: والحالُ أنْ فَرِيقًا مِنهم كارِهُونَ لِلْخُرُوجِ إمّا لِنَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنِ القِتالِ، أوْ لِعَدَمِ الِاسْتِعْدادِ، وذَلِكَ أنَّ عِيرَقُرَيْشٍ أقْبَلَتْ مِنَ الشّامِ وفِيها تِجارَةٌ عَظِيمَةٌ، ومَعَها أرْبَعُونَ راكِبًا مِنهم أبُو سُفْيانَ، وعَمْرُو بْنُ العاصِ، وعَمْرُو بْنُ هِشامٍ، فَأخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأخْبَرَ المُسْلِمِينَ فَأعْجَبَهم تَلَقِّي العِيرِ لِكَثْرَةِ الخَيْرِ، وقِلَّةِ القَوْمِ، فَلَمّا خَرَجُوا بَلَغَ أهْلَ مَكَّةَ خَبَرُ خُرُوجِهِمْ، فَنادى أبُو جَهْلٍ فَوْقَ الكَعْبَةِ بِأهْلِ مَكَّةَ: النَّجاةَ النَّجاةَ عَلى كُلِّ صَعْبٍ وذَلُولٍ عِيرُكم أمْوالُكُمْ، إنْ أصابَها مُحَمَّدٌ لَمْ تُفْلِحُوا بَعْدَها أبَدًا. وَقَدْ رَأتْ أُخْتُ العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المَطْلَبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -رُؤْيا فَقالَتْ لِأخِيها: إنِّي رَأيْتُ كَأنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّماءِ فَأخَذَ صَخْرَةً مِنَ الجَبَلِ، ثُمَّ حَلَّقَ بِها فَلَمْ يَبْقَ بَيْتٌ مِن بُيُوتِ مَكَّةَ إلّا أصابَهُ حَجَرٌ مِن تِلْكَ الصَّخْرَةِ، فَحَدَّثَ بِها العَبّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقالَ أبُو جَهْلٍ: ما يَرْضى رِجالُهم أنْ يَتَنَبَّئُوا حَتّى تَتَنَبَّأ نِساؤُهُمْ، فَخَرَجَ أبُو جَهْلٍ بِجَمِيعِ أهْلِ مَكَّةَ وهُمُ النَّفِيرُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ العِيرَ أخَذَتْ طَرِيقَ السّاحِلِ ونَجَتْ، فارْجِعْ بِالنّاسِ إلى مَكَّةَ، فَقالَ: لا، واللّاتِ لا يَكُونُ ذَلِكَ أبَدًا حَتّى نَنْحَرَ الجَزُورَ، ونَشْرَبَ الخُمُورَ، ونُقِيمَ القَيْناتِ والمَعازِفَ بِبَدْرٍ، فَيَتَسامَعُ جَمِيعُ العَرَبِ بِمَخْرَجِنا وأنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُصِبِ العِيرَ، وأنّا قَدْ أعْضَضْناهُ فَمَضى بِهِمْ إلى بَدْرٍ، وبَدْرٌ: ماءٌ كانَتِ العَرَبُ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِسُوقِهِمْ يَوْمًا في السِّنَةِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ وعَدَكم إحْدى الطّائِفَتَيْنِ إمّا العِيرَ وإمّا قُرَيْشًا، فاسْتَشارَ النَّبِيُّ ﷺ أصْحابَهُ، فَقالَ: "ما تَقُولُونَ إنَّ القَوْمَ قَدْ خَرَجُوا مَن مَكَّةَ عَلى كُلِّ صَعْبٍ وذَلُولٍ، فالعِيرُ أحَبُّ إلَيْكم أمِ النَّفِيرُ؟" فَقالُوا: بَلِ العِيرُ أحَبُّ إلَيْنا مِن لِقاءِ العَدُوِّ، فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ رَدَّدَ عَلَيْهِمْ فَقالَ: "إنَّ العِيرَ قَدْ مَضَتْ عَلى ساحِلِ البَحْرِ، وهَذا أبُو جَهْلٍ قَدْ أقْبَلَ"، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيْكَ بِالعِيرِ ودَعِ العَدُوَّ، فَقامَ - عِنْدَما غَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ - أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، فَأحْسَنا، ثُمَّ قامَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ فَقالَ: انْظُرْ أمْرَكَ فامْضِ، فَواللَّهِ لَوْ سِرْتَ إلى عَدَنِ أبْيَنَ ما تَخَلَّفَ عَنْكَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ، ثُمَّ قالَ المِقْدادُ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِما أمَرَكَ اللَّهُ فَإنّا مَعَكَ حَيْثُما أحْبَبْتَ، لا نَقُولُ لَكَ كَما قالَ بَنُو إسْرائِيلَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ، ولَكِنِ: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا مَعَكُما مُقاتِلُونَ، (p-6)ما دامَتْ عَيْنٌ مِنّا تَطْرِفُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قالَ: "أشِيرُوا عَلَيَّ أيُّها النّاسُ"، وهو يُرِيدُ الأنْصارَ؛ لِأنَّهم قالُوا لَهُ حِينَ بايَعُوهُ عَلى العَقَبَةِ: إنّا بُرَآءُ مِن ذِمامِكَ حَتّى تَصِلَ إلى دِيارِنا، فَإذا وصَلْتَ إلَيْنا فَأنْتَ في ذِمامِنا نَمْنَعُكَ ما نَمْنَعُ مِنهُ أبْناءَنا ونِساءَنا، فَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّفُ أنْ تَكُونَ الأنْصارُ لا تَرى عَلَيْهِمْ نُصْرَتَهُ إلّا عَلى عَدُوٍّ دَهِمَهُ بِالمَدِينَةِ، فَقامَ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ فَقالَ: لَكَأنَّكَ تُرِيدُنا يا رَسُولَ لِلَّهِ، قالَ: "أجَلْ"، قالَ: قَدْ آمَنّا بِكَ وصَدَّقْناكَ، وشَهِدْنا أنَّ ما جِئْتَ بِهِ هو الحَقُّ، وأعْطَيْناكَ عَلى ذَلِكَ عُهُودَنا ومَواثِيقَنا عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ، فامْضِ يا رَسُولَ اللَّهِ لِما أرَدْتَ، فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنا هَذا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْناهُ مَعَكَ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكْرَهُ أنْ تَلْقى بِنا عَدُوَّنا، وإنّا لَصَبْرٌ عِنْدَ الحَرْبِ صَدْقٌ عِنْدَ اللِّقاءِ، ولَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنّا ما تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنا عَلى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وبَسَطَهُ قَوْلُ سَعْدٍ، ثُمَّ قالَ: "سِيرُوا عَلى بَرَكَةِ اللَّهِ وأبْشِرُوا، فَإنَّ اللَّهَ قَدْ وعَدَنِي إحْدى الطّائِفَتَيْنِ واللَّهِ لَكَأنِّي الآنَ أنْظُرُ إلى مُصارِعِ القَوْمِ". رُوِيَ أنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ فَرَغَ مِن بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالعِيرِ لَيْسَ دُونَها شَيْءٌ، فَناداهُ العَبّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في وِثاقِهِ، لا يَصْلُحُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: لِمَ؟ قالَ: لِأنَّ اللَّهَ وعَدَكَ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ، وقَدْ أعْطاكَ ما وعَدَكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب