الباحث القرآني

(p-2)(سُورَةُ الأنْفالِ مَدَنِيَّةٌ، وهي خَمْسٌ وسَبْعُونَ آيَةً) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ﴾ النَّفْلُ: الغَنِيمَةُ، سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأنَّها عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى زائِدَةٌ عَلى ما هو أصْلُ الأجْرِ في الجِهادِ مِنَ الثَّوابِ الأُخْرَوِيِّ، ويُطْلَقُ عَلى ما يُعْطى بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ زِيادَةً عَلى السَّهْمِ مِنَ المَغْنَمِ، وقُرِئَ (عَلَنْفالِ) بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى اللّامِ وإدْغامِ نُونِ عَنْ في اللّامِ. رُوِيَ «أنَّ المُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا في غَنائِمِ بَدْرٍ وفي قِسْمَتِها فَسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ تُقَسَّمُ؟ ولِمَنِ الحُكْمُ فِيها ألِلْمُهاجِرِينَ أمْ لِلْأنْصارِ أمْ لَهم جَمِيعًا؟ وقِيلَ: إنَّ الشَّبابَ قَدْ أبْلَوْا يَوْمَئِذٍ بَلاءً حَسَنًا، فَقَتَلُوا سَبْعِينَ وأسَرُوا سَبْعِينَ، فَقالُوا: نَحْنُ المُقاتِلُونَ ولَنا الغَنائِمُ، وقالَ الشُّيُوخُ والوُجُوهُ الَّذِينَ كانُوا عِنْدَ الرّاياتِ: كُنّا رِدْءًا لَكم وفِئَةً تَنْحازُونَ إلَيْها، حَتّى قالَ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "واللَّهِ ما مَنَعَنا أنْ نَطْلُبَ ما طَلَبَ هَؤُلاءِ زَهادَةٌ في الأجْرِ ولا جُبْنٌ مِنَ العَدُوِّ، ولَكِنْ كَرِهْنا أنْ نُعَرِّيَ مَصافَّكَ فَيَعْطِفَ عَلَيْكَ خَيْلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ".» وَقِيلَ: " «كانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ شَرَطَ لِمَن كانَ لَهُ بَلاءٌ أنْ يُنَفِّلَهُ، ولِذَلِكَ فَعَلَ الشُّبّانُ ما فَعَلُوا مِنَ القَتْلِ والأسْرِ فَسَألُوهُ ﷺ ما شَرَطَهُ لَهُمْ؟ فَقالَ الشُّيُوخُ: المَغْنَمُ قَلِيلٌ والنّاسُ كَثِيرٌ وإنْ تُعْطِ هَؤُلاءِ ما شَرَطْتَ لَهم حَرَمْتَ أصْحابَكَ، فَنَزَلَتْ".» والأوَّلُ هو الظّاهِرُ لِما أنَّ السُّؤالَ اسْتِعْلامٌ لِحُكْمِ الأنْفالِ بِقَضِيَّةِ كَلِمَةِ "عَنْ" لا اسْتِعْطاءٌ لِنَفْسِها، كَما نَطَقَ بِهِ الوَجْهُ الأخِيرُ، وادِّعاءُ زِيادَةِ "عَنْ" تَعَسُّفٌ ظاهِرٍ، والِاسْتِدْلالُ عَلَيْهِ بِقِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، وعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وزَيْدٍ، ومُحَمَّدٍ الباقِرِ، وجَعْفَرٍ الصّادِقِ، وعِكْرِمَةَ، وعَطاءٍ: (يَسْألُونَكَ الأنْفالَ) غَيْرُ مُنْتَهِضٍ، فَإنَّ مَبْناها - كَما قالُوا - عَلى الحَذْفِ والإيصالِ، كَما يُعْرِبُ عَنْهُ الجَوابُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ أيْ: حُكْمُها مُخْتَصٌّ بِهِ تَعالى يُقَسِّمُها الرَّسُولُ ﷺ كَيْفَما أُمِرَ بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ رَأْيُ أحَدٍ، ولَوْ كانَ السُّؤالُ اسْتِعْطاءً لَما كانَ هَذا جَوابًا لَهُ، فَإنَّ اخْتِصاصَ حُكْمِ ما شُرِطَ لَهم مِنَ الأنْفال بِاللَّهِ والرَّسُولِ لا يُنافِي إعْطاءَها إيّاهُمْ، بَلْ يُحَقِّقُهُ؛ لِأنَّهم إنَّما يَسْألُونَها بِمُوجِبِ شَرْطِ الرَّسُولِ ﷺ الصّادِرِ عَنْهُ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى لا بِحُكْمِ سَبْقِ أيْدِيهِمْ إلَيْها، ونَحْوُ ذَلِكَ مِمّا يُخِلُّ بِالِاخْتِصاصِ المَذْكُورِ، وحَمْلُ الجَوابِ عَلى مَعْنى أنَّ الأنْفالَ بِالمَعْنى المَذْكُورِ مُخْتَصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لا حَقَّ فِيها لِلْمُنَفَّلِ كائِنًا مَن كانَ مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ قَطْعًا ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِحْقاقِ بِالتَّنْفِيلِ، وادِّعاءُ أنَّ ثُبُوتَهُ بِدَلِيلٍ مُتَأخِّرٍ التِزامٌ لِتَكَرُّرِ النَّسْخِ مِن غَيْرِ عِلْمٍ بِالنّاسِخِ (p-3)الأخِيرِ، ولا مُساغَ لِلْمَصِيرِ إلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ مُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ؛ مِن أنَّ الأنْفالَ كانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خاصَّةً، لَيْسَ لِأحَدٍ فِيها شَيْءٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ﴾ لِما أنَّ المُرادَ بِالأنْفالِ فِيما قالُوا هو المَعْنى الأوَّلُ حَتْمًا، كَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ. عَلى أنَّ الحَقَّ أنَّهُ لا نَسْخَ حِينَئِذٍ أيْضًا حَسْبَما قالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، بَلْ بَيَّنَ في صَدْرِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ إجْمالًا أنَّ أمْرَها مُفَوَّضٌ إلى اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَصارِفَها وكَيْفِيَّةَ قِسْمَتِها عَلى التَّفْصِيلِ، وادِّعاءُ اقْتِصارِ هَذا الحُكْمِ - أعْنِي الِاخْتِصاصَ بِرَسُولِ اللَّهِ - ﷺ عَلى الأنْفالِ المَشْرُوطَةِ يَوْمَ بَدْرٍ يَجْعَلُ اللّامَ لِلْعَهْدِ - مَعَ بَقاءِ اسْتِحْقاقِ المُنَفَّلِ في سائِرِ الأنْفالِ المَشْرُوطَةِ - يَأْباهُ مَقامُ بَيانِ الأحْكامِ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ إظْهارُ الأنْفالِ في مَوْقِعِ الإضْمارِ، عَلى أنَّ الجَوابَ عَنْ سُؤالِ المَوْعُودِ بِبَيانِ كَوْنِهِ لَهُ ﷺ خاصَّةً مِمّا لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ الكَرِيمِ أصْلًا، وقَدْ رُوِيَ «عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ أنَّهُ قالَ: "قُتِلَ أخِي عُمَيْرٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلْتُ بِهِ سَعِيدَ بْنَ العاصِ، وأخَذْتُ سَيْفَهُ فَأعْجَبَنِي فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ شَفى صَدْرِي مِنَ المُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذا السَّيْفَ، فَقالَ لِي ﷺ: لَيْسَ هَذا لِي ولا لَكَ اطْرَحْهُ في القَبْضِ، فَطَرَحْتُهُ وبِي ما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ مِن قَتْلِ أخِي وأخْذِ سَلَبِي، فَما جاوَزْتُ إلّا قَلِيلًا حَتّى نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْفالِ، فَقالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يا سَعْدُ، إنَّكَ سَألْتَنِي السَّيْفَ ولَيْسَ لِي وقَدْ صارَ لِي، فاذْهَبْ فَخُذْهُ".» وَهَذا كَما تَرى يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ التَّنْفِيلِ يَوْمَئِذٍ، وإلّا لَكانَ سُؤالُ السَّيْفِ مِن سَعْدٍ بِمُوجِبِ شَرْطِهِ ووَعْدِهِ ﷺ لا بِطْرِيقَ الهِبَةِ المُبْتَدَأةِ، وحَمْلُ ذَلِكَ مِن سَعْدٍ عَلى مُراعاةِ الأدَبِ مَعَ كَوْنِ سُؤالِهِ بِمُوجِبِ الشَّرْطِ يَرُدُّهُ رَدُّهُ ﷺ قَبْلَ النُّزُولِ، وتَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: "لَيْسَ هَذا لِي" لِاسْتِحالَةِ أنْ يَعِدَ ﷺ بِما لا يَقْدِرُ عَلى إنْجازِهِ، وإعْطاؤُهُ ﷺ بَعْدَ النُّزُولِ وتَرْتِيبُهُ عَلى قَوْلِهِ: "وَقَدْ صارَ لِي" ضَرُورَةَ أنَّ مَناطَ صَيْرُورَتِهِ لَهُ ﷺ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ والفَرْضُ أنَّهُ المانِعُ مِن إعْطاءِ المَسْؤُولِ، ومِمّا هو نَصٌّ في البابِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيْ: إذا كانَ أمْرُ الغَنائِمِ لِلَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ فاتَّقُوهُ تَعالى، واجْتَنِبُوا ما كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ المُشاجَرَةِ فِيها والِاخْتِلافِ المُوجِبِ لِسُخْطِ اللَّهِ تَعالى، أوْ فاتَّقُوهُ في كُلِّ ما تَأْتُونَ وما تَذَرُونَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ ما هم فِيهِ دُخُولًا أوَّلِيًّا. وَلَوْ كانَ السُّؤالُ طَلَبًا لِلْمَشْرُوطِ لَما كانَ فِيهِ مَحْذُورٌ يَجِبُ اتِّقاؤُهُ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وتَعْلِيلِ الحُكْمِ. ﴿وَأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ جُعِلَ ما بَيْنَهم مِنَ الحالِ لِمُلابَسَتِها التّامَّةِ لِبَيْنِهِمْ صاحِبَةً لَهُ، كَما جُعِلَتِ الأُمُورُ المُضْمَرَةُ في الصُّدُورِ ذاتَ الصُّدُورِ، أيْ: أصْلِحُوا ما بَيْنَكم مِنَ الأحْوالِ بِالمُواساةِ والمُساعَدَةِ فِيما رَزَقَكُمُ اللَّهُ تَعالى، وتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وعَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ: نَزَلَتْ فِينا مَعْشَرَ أصْحابِ بَدْرٍ حِينَ اخْتَلَفْنا في النَّفْلِ وساءَتْ فِيهِ أخْلافُنا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ تَعالى مِن أيْدِينا فَجَعَلَهُ لِرَسُولِهِ، فَقَسَّمَهُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ عَلى السَّواءِ، وكانَ في ذَلِكَ تَقْوى اللَّهِ وطاعَةُ رَسُولِهِ وإصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ. وَعَنْ عَطاءٍ: كانَ الإصْلاحُ بَيْنَهم أنْ دَعاهم وقالَ: اقْسِمُوا غَنائِمَكم بِالعَدْلِ، فَقالُوا: قَدْ أكَلْنا وأنْفَقْنا، فَقالَ: لِيَرُدَّ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ. ﴿وَأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ بِتَسْلِيمِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ، وتَوْسِيطُ الأمْرِ بِإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ بَيْنَ الأمْرِ بِالتَّقْوى والأمْرِ بِالطّاعَةِ لِإظْهارِ كَمالِ العِنايَةِ بِالإصْلاحِ بِحَسَبِ المَقامِ، ولِيَنْدَرِجَ الأمْرُ بِهِ بِعَيْنِهِ تَحْتَ الأمْرِ بِالطّاعَةِ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالأوامِرِ الثَّلاثَةِ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ؛ ثِقَةً بِدِلالَةِ المَذْكُورِ عَلَيْهِ، أوْ هو الجَوابُ عَلى الخِلافِ المَشْهُورِ، وأيًّا ما كانَ فالمَقْصُودُ تَحْقِيقُ المُعَلَّقِ بِناءً عَلى تَحَقُّقِ المُعَلَّقِ بِهِ، وفِيهِ تَنْشِيطٌ لِلْمُخاطَبِينَ، (p-4)وَحَثٌّ لَهم عَلى المُسارَعَةِ إلى الِامْتِثالِ، والمُرادُ بِالإيمانِ: كَمالُهُ، أيْ: إنْ كُنْتُمْ كامِلِي الإيمانِ، فَإنَّ كَمالَ الإيمانِ يَدُورُ عَلى هَذِهِ الخِصالِ الثَّلاثِ؛ طاعَةُ الأوامِرِ، واتِّقاءُ المَعاصِي، وإصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ بِالعَدْلِ والإحْسانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب