الباحث القرآني

﴿وَلَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ ما جَرى مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ المِيقاتِ، إثْرَ بَيانِ ما وقَعَ مِن قَوْمِهِ بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَضْبانَ أسِفًا﴾ حالانِ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، أوِ الثّانِي مِنَ المُسْتَكِنِ في غَضْبانَ، والآسِفُ: الشَّدِيدُ الغَضَبِ، وقِيلَ: الحَزِينُ. ﴿قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي﴾؛ أيْ: بِئْسَما فَعَلْتُمْ مِن بَعْدِ غَيْبَتِي، حَيْثُ عَبَدْتُمُ العِجْلَ بَعْدَ ما رَأيْتُمْ فِعْلِي مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى، ونَفْيِ الشُّرَكاءِ عَنْهُ، وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، أوْ مِن حَمْلِكم عَلى ذَلِكَ، وكَفِّكم عَمّا طَمَحَتْ نَحْوَهُ أبْصارُكم، حَيْثُ قُلْتُمْ: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ . وَمِن حَقِّ الخُلَفاءِ أنْ يَسِيرُوا بِسِيرَةِ المُسْتَخْلَفِ، فالخِطابُ لِلْعَبَدَةِ مِنَ السّامِرِيِّ وأشْياعِهِ، أوْ بِئْسَما قُمْتُمْ مَقامِي ولَمْ تُراعُوا عَهْدِي، حَيْثُ لَمْ تَكُفُّوا العَبَدَةَ عَمّا فَعَلُوا؛ فالخِطابُ لِهارُونَ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إذْ رَأيْتَهم ضَلُّوا﴾ ﴿ألا تَتَّبِعَنِي أفَعَصَيْتَ أمْرِي﴾ . وَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْكُلِّ، عَلى أنَّ المُرادَ بِالخَلِيفَةِ ما يَعُمُّ الأمْرَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، و" ما " نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفاعِلِ " بِئْسَ " المُسْتَكِنِ فِيهِ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: بِئْسَ خِلافَةً خَلَفْتُمُونِيها مِن بَعْدِي خِلافَتُكم. ﴿أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكُمْ﴾؛ أيْ: تَرَكْتُمُوهُ غَيْرَ تامٍّ عَلى تَضْمِينِ عَجِلَ مَعْنى سَبَقَ، يُقالُ: عَجِلَ عَنِ الأمْرِ: إذا تَرَكَهُ غَيْرَ تامٍّ، أوْ أُعْجِلْتُمْ وعْدَ رَبِّكُمُ الَّذِي وعَدَنِيهِ مِنَ الأرْبَعِينَ، وقَدَّرْتُمْ مَوْتِي، وغَيَّرْتُمْ بَعْدِي كَما غَيَّرَتِ الأُمَمُ بَعْدَ أنْبِيائِهِمْ. ﴿وَألْقى الألْواحَ﴾ طَرْحًا مِن شِدَّةِ الغَضَبِ وفَرْطِ الضَّجَرِ حَمِيَّةً لِلدِّينِ. رُوِيَ أنَّ التَّوْراةَ كانَتْ سَبْعَةَ أسْباعٍ في سَبْعَةِ ألْواحٍ، فَلَمّا ألْقاها انْكَسَرَتْ، فَرُفِعَتْ سِتَّةُ أسِباعِها الَّتِي كانَ فِيها تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، وبَقِيَ سُبُعٌ كانَ فِيهِ المَواعِظُ والأحْكامُ. ﴿وَأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ﴾ بِشَعْرِ رَأْسِهِ عَلَيْهِما السَّلامُ. ﴿يَجُرُّهُ إلَيْهِ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ أخَذَ، فَعَلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَوَهُّمًا أنَّهُ قَصَّرَ في كَفِّهِمْ، وهارُونُ كانَ أكْبَرَ مِنهُ عَلَيْهِما السَّلامُ بِثَلاثِ سِنِينَ، وكانَ حَمُولًا، ولِذَلِكَ كانَ أحَبَّ إلى بَنِي إسْرائِيلَ. ﴿قالَ﴾؛ أيْ: هارُونُ مُخاطِبًا لِمُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ. ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّداءِ، وتَخْصِيصُ الأُمِّ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِما شَقِيقَيْنِ، لِما أنَّ حَقَّ الأُمِّ أعْظَمُ وأحَقُّ بِالمُراعاةِ، مَعَ أنَّها كانَتْ مُؤْمِنَةً، وقَدْ قاسَتْ فِيهِ المَخاوِفَ والشَّدائِدَ، وقُرِئَ بِكَسْرِ المِيمِ بِإسْقاطِ الياءِ تَخْفِيفًا، كالمُنادى المُضافِ إلى الياءِ، وقِراءَةُ الفَتْحِ لِزِيادَةِ التَّخْفِيفِ، أوْ لِتَشْبِيهِهِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ. ﴿إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ إزاحَةً لِتَوَهُّمِ التَّقْصِيرِ في حَقِّهِ، والمَعْنى: بَذَلْتُ جُهْدِي في كَفِّهِمْ حَتّى قَهَرُونِي، واسْتَضْعَفُونِي وقارَبُوا قَتْلِي. ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ﴾؛ أيْ: فَلا تَفْعَلْ بِي ما يَكُونُ سَبَبًا لِشَماتَتِهِمْ بِي. ﴿وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾؛ أيْ: مَعْدُودًا في عِدادِهِمْ بِالمُؤاخَذَةِ، أوِ النِّسْبَةِ إلى التَّقْصِيرِ، وهَذا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الخِطابِ لِلْكُلِّ، أوْ لا تَعْتَقِدْ أنِّي واحِدٌ مِنَ الظّالِمِينَ مَعَ بَراءَتِي مِنهم ومِن ظُلْمِهِمْ.(p-275)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب