الباحث القرآني

﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ لَمّا أُمِرَ ﷺ بِإنْذارِ المَذْكُورِينَ لِيَنْتَظِمُوا في سِلْكِ المُتَّقِينَ، نُهِيَ ﷺ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يُؤَدِّي إلى طَرْدِهِمْ. رُوِيَ «أنَّ رُؤَساءَ مِنَ المُشْرِكِينَ قالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلاءِ الأعْبُدَ وأرْواحَ جِبابِهِمْ - يَعْنُونَ: فُقَراءَ المُسْلِمِينَ، كَعَمّارٍ، وصُهَيْبٍ، وخَبّابٍ، وسَلْمانَ، وأضْرابِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - جَلَسْنا إلَيْكَ وحادَثْناكَ، فَقالَ ﷺ: " ما أنا بِطارِدِ المُؤْمِنِينَ "، فَقالُوا: فَأقِمْهم عَنّا إذا جِئْنا، فَإذا قُمْنا فَأقْعِدْهم مَعَكَ إنْ شِئْتَ، قالَ ﷺ: " نَعَمْ "، طَمَعًا في إيمانِهِمْ» . وَرُوِيَ «أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَوْ فَعَلْتَ حَتّى تَنْظُرَ إلى ما يَصِيرُونَ» . وَقِيلَ: إنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ومُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ، والحَرْثَ بْنَ نَوْفَلٍ، وقَرْصَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، وعَمْرَو بْنَ نَوْفَلٍ، وأشْرافَ بَنِي عَبْدِ مَنافٍ مِن أهْلِ الكُفْرِ، أتَوْا أبا طالِبٍ، فَقالُوا: يا أبا طالِبٍ؛ لَوْ أنَّ ابْنَ أخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ مُوالِيَنا وحُلَفاءَنا، وهم عَبِيدُنا وعُتَقاؤُنا، كانَ أعْظَمَ في صُدُورِنا وأدْنى لِاتِّباعِنا إيّاهُ؛ فَأتى أبُو طالِبٍ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ حَتّى نَنْظُرَ ما الَّذِي يُرِيدُونَ إلى ما يَصِيرُونَ. وَقالَ سَلْمانُ وخَبّابٌ: فِينا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، «جاءَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الفَزارِيُّ، وعَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ، وذَوُوهم مِنَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم، (p-139)فَوَجَدُوا النَّبِيَّ ﷺ جالِسًا مَعَ أُناسٍ مِن ضُعَفاءِ المُؤْمِنِينَ؛ فَلَمّا رَأوْهم حَوْلَهُ ﷺ حَقَّرُوهم، فَأتَوْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوْ جَلَسْتَ في صَدْرِ المَجْلِسِ، ونَفَيْتَ عَنّا هَؤُلاءِ وأرْواحَ جِبابِهِمْ، فَجالَسْناكَ وحادَثْناكَ وأخَذْنا عَنْكَ؛ فَقالَ ﷺ: " ما أنا بِطارِدِ المُؤْمِنِينَ "، قالُوا: فَإنّا نُحِبُّ أنْ تَجْعَلَ لَنا مَعَكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنا بِهِ العَرَبُ فَضْلَنا، فَإنَّ وُفُودَ العَرَبِ تَأْتِيكَ، فَنَسْتَحِي أنْ تَرانا مَعَ هَؤُلاءِ الأعْبُدِ، فَإذا نَحْنُ جِئْناكَ فَأقِمْهم عَنّا، فَإذا نَحْنُ فَرَغْنا فاقْعُدْ مَعَهم إنْ شِئْتَ؛ قالَ ﷺ: " نَعَمْ "، قالُوا: فاكْتُبْ لَنا كِتابًا، فَدَعا بِالصَّحِيفَةِ وبِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لِيَكْتُبَ، ونَحْنُ قُعُودٌ في ناحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالآيَةِ؛ فَرَمى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالصَّحِيفَةِ ودَعانا، فَأتَيْناهُ وجَلَسْنا عِنْدَهُ، وكُنّا نَدْنُو مِنهُ حَتّى تَمَسَّ رُكْبَتُنا رُكْبَتَهُ، وكانَ يَقُومُ عَنّا إذا أرادَ القِيامَ، فَنَزَلَتْ: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾؛ فَتَرَكَ القِيامَ عَنّا إلى أنْ نَقُومَ عَنْهُ، وقالَ: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتّى أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ قَوْمٍ مِن أُمَّتِي، مَعَكُمُ المَحْيا ومَعَكُمُ المَماتَ» " . والمُرادُ بِذِكْرِ الوَقْتَيْنِ: الدَّوامُ، وقِيلَ: صَلاةُ الفَجْرِ والعَصْرِ، وقُرِئَ: ( بِالغُدْوَةِ ) . وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُونَ وجْهَهُ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ يَدْعُونَ؛ أيْ: يَدْعُونَهُ تَعالى مُخْلِصِينَ لَهُ فِيهِ، وتَقْيِيدُهُ بِهِ لِتَأْكِيدِ عِلِّيَّتِهِ لِلنَّهْيِ، فَإنَّ الإخْلاصَ مِن أقْوى مُوجِباتِ الإكْرامِ المُضادِّ لِلطَّرْدِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ اعْتِراضٌ وُسِّطَ بَيْنَ النَّهْيِ وجَوابِهِ تَقْرِيرًا لَهُ، ودَفْعًا لِما عَسى يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ مُسَوِّغًا لِطَرْدِهِمْ مِن أقاوِيلِ الطّاعِنِينَ في دِينِهِمْ، كَدَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ، حَيْثُ قالُوا: ﴿وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ﴾؛ أيْ: ما عَلَيْكَ شَيْءٌ ما مِن حِسابِ إيمانِهِمْ وأعْمالِهِمُ الباطِنَةِ، حَتّى تَتَصَدّى لَهُ وتَبْنِيَ عَلى ذَلِكَ ما تَراهُ مِنَ الأحْكامِ، وإنَّما وظِيفَتُكَ حَسْبَما هو شَأْنُ مَنصِبِ النُّبُوَّةِ، اعْتِبارُ ظَواهِرِ الأعْمالِ وإجْراءُ الأحْكامِ عَلى مُوجِبِها، وأمّا بَواطِنُ الأُمُورِ فَحِسابُها عَلى العَلِيمِ بِذاتِ الصُّدُورِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ حِسابُهم إلا عَلى رَبِّي﴾ . وَذِكْرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ مَعَ أنَّ الجَوابَ قَدْ تَمَّ بِما قَبْلَهُ، لِلْمُبالَغَةِ في بَيانِ انْتِفاءِ كَوْنِ حِسابِهِمْ عَلَيْهِ ﷺ، بِنَظْمِهِ في سِلْكِ ما لا شُبْهَةَ فِيهِ أصْلًا، وهو انْتِفاءُ كَوْنِ حِسابِهِ ﷺ عَلَيْهِمْ، عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ . وَأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِ الجُمْلَتَيْنِ مَنزِلَةَ جُمْلَةٍ واحِدَةٍ لِتَأْدِيَةِ مَعْنًى واحِدٍ، عَلى نَهْجِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾؛ فَغَيْرُ حَقِيقٍ بِجَلالَةِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ، وتَقْدِيمُ " عَلَيْكَ " في الجُمْلَةِ الأُولى لِلْقَصْدِ إلى إيرادِ النَّفْيِ عَلى اخْتِصاصِ حِسابِهِمْ بِهِ ﷺ؛ إذْ هو الدّاعِي إلى تَصَدِّيهِ ﷺ لِحِسابِهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ، والمَعْنى: إنَّكَ لا تُؤاخَذُ بِحِسابِهِمْ حَتّى يُهِمَّكَ إيمانُهم، ويَدْعُوكَ الحِرْصُ عَلَيْهِ إلى أنْ تَطْرُدَ المُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جَوابُ النَّفْيِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ جَوابُ النَّهْيِ، وقَدْ جُوِّزَ عَطْفُهُ عَلى " فَتَطْرُدَهم " عَلى طَرِيقَةِ التَّسْبِيبِ، ولَيْسَ بِذاكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب