﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ مَسُوقٌ لِحِكايَةِ ما صَدَرَ في الدُّنْيا عَنْ بَعْضِ المُشْرِكِينَ مِن أحْكامِ الكَفْرِ، ثُمَّ بَيانِ ما سَيَصْدُرُ عَنْهم يَوْمَ الحَشْرِ تَقْرِيرًا لِما قَبْلَهُ وتَحْقِيقًا لِمَضْمُونِهِ، والضَّمِيرُ لِلَّذِينِ أشْرَكُوا، ومَحَلُّ الظَّرْفِ الرَّفْعُ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ بِاعْتِبارِ مَضْمُونِهِ، أوْ بِتَقْدِيرِ المَوْصُوفِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمِنّا دُونَ ذَلِكَ﴾؛ أيْ: وجَمْعٌ مِنّا ... إلَخْ.
وَ" مَن " مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ مَحَلُّها الرَّفْعُ عَلى الخَبَرِيَّةِ، والمَعْنى: وبَعْضُهم أوْ وبَعْضٌ مِنهُمُ الَّذِي يَسْتَمِعُ إلَيْكَ، أوْ فَرِيقٌ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ عَلى أنَّ مَناطَ الإفادَةِ اتِّصافُهم بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ أوِ الصِّفَةِ، لا كَوْنُهم ذَواتِ أُولَئِكَ المَذْكُورِينَ، وقَدْ مَرَّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ ...﴾ إلَخْ.
رُوِيَ أنَّهُ اجْتَمَعَ أبُو سُفْيانَ، والوَلِيدُ، والنَّضْرُ، وعُتْبَةُ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَهْلٍ، وأضْرابُهم، يَسْتَمِعُونَ تِلاوَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالُوا لِلنَّضْرِ، وكانَ صاحِبَ أخْبارٍ: يا أبا قُتَيْلَةَ؛ ما يَقُولُ مُحَمَّدٌ ؟ فَقالَ: والَّذِي جَعَلَها بَيْتَهُ ما أدْرِي ما يَقُولُ، إلّا أنَّهُ يُحَرِّكُ لِسانَهُ ويَقُولُ أساطِيرَ الأوَّلِينَ مِثْلَ ما حَدَّثْتُكم مِنَ القُرُونِ الماضِيَةِ، فَقالَ أبُو سُفْيانَ: إنِّي لَأراهُ حَقًّا، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: كَلّا؛ فَنَزَلَتْ.
﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ مِنَ الجَعْلِ بِمَعْنى الإنْشاءِ، وعَلى مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وضَمِيرُ قُلُوبِهِمْ راجِعٌ إلى مَن، وجَمْعِيَّتُهُ بِالنَّظَرِ إلى مَعْناها، كَما أنَّ إفْرادَ ضَمِيرِ يَسْتَمِعُ بِالنَّظَرِ إلى لَفْظِها، وقَدْ رُوعِيَ جانِبُ المَعْنى في قَوْلِهِ تَعالى: " ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾ ... " الآيَةَ.
والأكِنَّةُ: جَمْعُ كِنانٍ، وهو ما يُسْتَرُ بِهِ الشَّيْءُ، وتَنْوِينُها لِلتَّفْخِيمِ، والجُمْلَةُ إمّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإخْبارِ بِما تَضَمَّنَهُ مِنَ الخَتْمِ، أوْ حالٌ مِن فاعِلِ يَسْتَمِعُ بِإضْمارِ قَدْ عِنْدَ مَن يُقَدِّرُها قَبْلَ الماضِي الواقِعِ حالًا؛ أيْ: يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وقَدْ ألْقَيْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أغْطِيَةً كَثِيرَةً لا يُقادَرُ قَدْرُها خارِجَةً عَمّا يَتَعارَفُهُ النّاسُ.
﴿أنْ يَفْقَهُوهُ﴾؛ أيْ: كَراهَةَ أنْ يَفْقَهُوا ما يَسْتَمِعُونَهُ مِنَ القرآن المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الِاسْتِماعِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِما يُنْبِئُ عَنْهُ الكَلامُ؛ أيْ: مَنَعْناهم أنْ يَفْقَهُوهُ.
﴿وَفِي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ صَمَمًا وثِقَلًا مانِعًا مِن سَماعِهِ، والكَلامُ فِيهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ .
وَهَذا تَمْثِيلٌ مُعْرِبٌ عَنْ كَمالِ جَهْلِهِمْ بِشُئُونِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفَرْطِ نُبُوَّةِ قُلُوبِهِمْ عَنْ فَهْمِ القرآن الكَرِيمِ ومَجِّ أسْماعِهِمْ لَهُ، وقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
وَقِيلَ: هو حِكايَةٌ لِما قالُوا: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ...﴾ الآيَةَ.
وَأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ مُرادَهم بِذَلِكَ الإخْبارُ بِما اعْتَقَدُوهُ في حَقِّ القرآن والنَّبِيِّ ﷺ، جَهْلًا وكُفْرًا مِنِ اتِّصافِهِما بِأوْصافٍ مانِعَةٍ مِنَ التَّصْدِيقِ والإيمانِ، كَكَوْنِ القرآن سِحْرًا، وشِعْرًا، وأساطِيرَ الأوَّلِينَ، وقِسْ عَلى ما تَخَيَّلُوهُ في حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ، لا الإخْبارُ بِأنَّ هُناكَ أمْرًا وراءَ ذَلِكَ قَدْ حالَ بَيْنَهم وبَيْنَ إدْراكِهِ حائِلٌ مِن قِبَلِهِمْ حَتّى يُمْكِنَ حَمْلُ النَّظْمِ الكَرِيمِ عَلى ذَلِكَ.
﴿وَإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ مِنَ الآياتِ القرآنيَّةِ؛ أيْ: يُشاهِدُوها بِسَماعِها.
﴿لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ عَلى عُمُومِ النَّفْيِ لا عَلى نَفْيِ العُمُومِ؛ أيْ: كَفَرُوا بِكُلِّ واحِدَةٍ مِنها لِعَدَمِ اجْتِلائِهِمْ إيّاها كَما هي لِما مَرَّ مِن حالِهِمْ.
﴿حَتّى إذا جاءُوكَ يُجادِلُونَكَ﴾ هي حَتّى الَّتِي تَقَعُ بَعْدَها الجُمَلُ، والجُمْلَةُ هي قَوْلُهُ تَعالى: " ﴿إذا جاءُوكَ﴾ " .
﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وما بَيْنَهُما حالٌ مِن فاعِلِ جاءُوا، وإنَّما وُضِعَ المَوْصُولُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ذَمًّا لَهم بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، وإشْعارًا بِعِلَّةِ الحُكْمِ؛ أيْ: بَلَغُوا مِنَ (p-122)التَّكْذِيبِ والمُكابَرَةِ إلى أنَّهم إذا جاءُوكَ مُجادِلِينَ لَكَ لا يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الإيمانِ بِما سَمِعُوا مِنَ الآياتِ الكَرِيمَةِ، بَلْ يَقُولُونَ: ﴿إنْ هَذا﴾؛ أيْ: ما هَذا.
﴿إلا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ فَإنَّ عَدَّ أحْسَنِ الحَدِيثِ وأصْدَقِهِ، الَّذِي لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ، مِن قَبِيلِ الأباطِيلِ والخُرافاتِ رُتْبَةٌ مِنَ الكُفْرِ لا غايَةَ وراءَها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ حَتّى جارَّةً، وإذا ظَرْفِيَّةً بِمَعْنى وقْتَ مَجِيئِهِمْ، ويُجادِلُونَكَ حالٌ كَما سَبَقَ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: " ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ... " إلَخْ، تَفْسِيرٌ لِلْمُجادَلَةِ. والأساطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ، أوْ أسْطارَةٍ، أوْ جَمْعُ أسْطارٍ، وهو جَمْعُ سَطَرٍ بِالتَّحْرِيكِ، وأصْلُ الكُلِّ: السَّطْرُ، بِمَعْنى الخَطِّ.
{"ayah":"وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُ إِلَیۡكَۖ وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۚ وَإِن یَرَوۡا۟ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُوا۟ بِهَاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوكَ یُجَـٰدِلُونَكَ یَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ"}