الباحث القرآني

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِبَيانِ بُطْلانِ كُفْرِهِمْ بِالبَعْثِ مَعَ مُشاهَدَتِهِمْ لِما يُوجِبُ الإيمانَ بِهِ، إثْرَ بَيانِ بُطْلانِ إشْراكِهِمْ بِهِ تَعالى مَعَ مُعايَنَتِهِمْ لِمُوجِباتِ تَوْحِيدِهِ، وتَخْصِيصُ خَلْقِهِمْ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ سائِرِ دَلائِلِ صِحَّةِ البَعْثِ مَعَ أنَّ ما ذُكِرَ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ مِن أوْضَحِها وأظْهَرِها، كَما ورَدَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾، لِما أنَّ مَحَلَّ النِّزاعِ بَعْثُهم؛ فَدَلالَةُ بَدْءِ خَلْقِهِمْ عَلى ذَلِكَ أظْهَرُ، وهم بِشُئُونِ أنْفُسِهِمْ أعْرَفُ والتَّعامِي عَنِ الحُجَّةِ النَّيِّرَةِ أقْبَحُ. والِالتِفاتُ لِمَزِيدِ التَّشْنِيعِ والتَّوْبِيخِ؛ أيِ: ابْتَدَأ خَلْقَكم مِنهُ، فَإنَّهُ المادَّةُ الأُولى لِلْكُلِّ، لِما أنَّهُ مَنشَأُ آدَمَ الَّذِي هو أبُو البَشَرِ، وإنَّما نُسِبَ هَذا الخَلْقُ إلى المُخاطَبِينَ، لا إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو المَخْلُوقُ مِنهُ حَقِيقَةً بِأنْ يُقالَ: هو الَّذِي خَلَقَ أباكم ... إلَخْ، مَعَ كِفايَةِ عِلْمِهِمْ بِخَلْقِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنهُ في إيجابِ الإيمان بالبَعْثِ وبُطْلانِ الِامْتِراءِ، لِتَوْضِيحِ مِنهاجِ القِياسِ، ولِلْمُبالَغَةِ في إزاحَةِ الِاشْتِباهِ والِالتِباسِ مَعَ ما فِيهِ مِن تَحْقِيقِ الحَقِّ، والتَّنْبِيهِ عَلى حِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ، هي أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ البَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِن إنْشائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنهُ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِطْرَتُهُ البَدِيعَةُ مَقْصُورَةً عَلى نَفْسِهِ، بَلْ كانَتْ أُنْمُوذَجًا مُنْطَوِيًا عَلى فِطْرَةِ سائِرِ آحادِ الجِنْسِ، انْطِواءً إجْمالِيًّا مُسْتَتْبِعًا لِجَرَيانِ آثارِها عَلى الكُلِّ، فَكانَ خَلْقُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الطِّينِ خَلْقًا لِكُلِّ أحَدٍ مِن فُرُوعِهِ مِنهُ، ولَمّا كانَ خَلْقُهُ عَلى هَذا النَّمَطِ السّارِي إلى جَمِيعِ أفْرادِ ذُرِّيَّتِهِ، أبْدَعَ مِن أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلى نَفْسِهِ، كَما هو المَفْهُومُ مِن نِسْبَةِ الخَلْقِ المَذْكُورِ إلَيْهِ، وأدَلَّ عَلى عِظَمِ قُدْرَةِ الخَلّاقِ العَلِيمِ، وكَمالِ عِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ. وَكانَ ابْتِداءُ حالِ المُخاطَبِينَ أوْلى بِأنْ يَكُونَ مِعْيارًا لِانْتِهائِها فَعَلَ ما فَعَلَ، ولِلَّهِ دَرُّ شَأْنِ التَّنْزِيلِ، وعَلى هَذا السِّرِّ مَدارُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكم ...﴾ إلَخْ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ كَما سَيَأْتِي. وَقِيلَ: المَعْنى: خَلَقَ أباكم مِنهُ، عَلى حَذْفِ المُضافِ. وقِيلَ: مَعْنى خَلْقِهِمْ مِنهُ: خَلْقِهِمْ مِنَ النُّطْفَةِ الحاصِلَةِ مِنَ الأغْذِيَةِ المُتَكَوِّنَةِ مِنَ الأرْضِ، وأيًّا ما كانَ؛ فَفِيهِ مِن وُضُوحِ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ قدرته تعالى عَلى البَعْثِ ما لا يَخْفى، فَإنَّ مَن قَدَرَ عَلى إحْياءِ ما لَمْ يَشُمَّ رائِحَةَ الحَياةِ قَطُّ، كانَ عَلى إحْياءِ ما قارَنَها مُدَّةً أظْهَرُ قُدْرَةً. ﴿ثُمَّ قَضى﴾؛ أيْ: كَتَبَ لِمَوْتِ كُلِّ واحِدٍ مِنكم. ﴿أجَلا﴾ خاصًّا بِهِ؛ أيْ: حَدًّا مُعَيَّنًا مِنَ الزَّمانِ يَفْنى عِنْدَ حُلُولِهِ لا مَحالَةَ، وكَلِمَةُ " ثُمَّ " لِلْإيذانِ بِتَفاوُتِ ما بَيْنَ خَلْقِهِمْ وبَيْنَ تَقْدِيرِ آجالِهِمْ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكَمُ البالِغَةُ. ﴿وَأجَلٌ مُسَمًّى﴾؛ أيْ: حَدٌّ مُعَيَّنٌ لِبَعْثِكم جَمِيعًا، وهو مُبْتَدَأٌ لِتَخَصُّصِهِ بِالصِّفَةِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾، ولِوُقُوعِهِ (p-107)فِي مَوْقِعِ التَّفْصِيلِ، كَما في قَوْلِ مَن قالَ: إذا ما بَكى مِن خَلْفِها انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشَقٍّ وشِقٌ عِنْدَنا لَمْ يُحَوَّلِ وَتَنْوِينُهُ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ وتَهْوِيلِ أمْرِهِ؛ لِذَلِكَ أُوثِرَ تَقْدِيمُهُ عَلى الخَبَرِ الَّذِي هو: ﴿عِنْدَهُ﴾ مَعَ أنَّ الشّائِعَ المُسْتَفِيضَ هو التَّأْخِيرُ، كَما في قَوْلِكَ: عِنْدِي كَلامٌ حَقٌّ، ولِي كِتابٌ نَفِيسٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: وأيُّ أجَلٍ مُسَمًّى مُثْبَتٌ مُعَيَّنٌ في عِلْمِهِ لا يَتَغَيَّرُ، ولا يَقِفُ عَلى وقْتِ حُلُولِهِ أحَدٌ، لا مُجْمَلًا ولا مُفَصَّلًا، وأمّا أجَلُ المَوْتِ فَمَعْلُومٌ إجْمالًا وتَقْرِيبًا، بِناءً عَلى ظُهُورِ أماراتِهِ، أوْ عَلى ما هو المُعْتادُ في أعْمارِ الإنْسانِ، وتَسْمِيَتُهُ أجَلًا إنَّما هي بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ غايَةً لِمُدَّةِ لَبْثِهِمْ في القُبُورِ، لا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِمُدَّةِ القِيامَةِ، كَما أنَّ مَدارَ التَّسْمِيَةِ في الأجَلِ الأوَّلِ هو كَوْنُهُ آخِرَ مُدَّةِ الحَياةِ، لا كَوْنُهُ أوَّلَ مُدَّةِ المَماتِ لِما أنَّ الأجَلَ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنْ آخِرِ المُدَّةِ لا عَنْ أوَّلِها. وَقِيلَ: الأجَلُ الأوَّلُ: ما بَيْنَ الخَلْقِ والمَوْتِ، والثّانِي: ما بَيْنَ المَوْتِ والبَعْثِ مِنَ البَرْزَخِ؛ فَإنَّ الأجَلَ كَما يُطْلَقُ عَلى آخِرِ المُدَّةِ يُطْلَقُ عَلى كُلِّها، وهو الأوْفَقُ لِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى قَضى لِكُلِّ أحَدٍ أجَلَيْنِ: أجَلًا مِن مَوْلِدِهِ إلى مَوْتِهِ، وأجَلًا مِن مَوْتِهِ إلى مَبْعَثِهِ، فَإنْ كانَ بَرًّا تَقِيًّا وصُولًا لِلرَّحِمِ، زِيدَ لَهُ مِن أجَلِ البَعْثِ في أجَلِ العُمُرِ، وإنْ كانَ فاجِرًا قاطِعًا نُقِصَ مِن أجَلِ العُمُرِ وزِيدَ في أجَلِ البَعْثِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ إلا في كِتابٍ﴾؛ فَمَعْنى عَدَمِ تَغَيُّرِ الأجَلِ حِينَئِذٍ: عَدَمُ تَغَيُّرِ آخِرِهِ. والأوَّلُ هو الأشْهَرُ الألْيَقُ بِتَفْخِيمِ الأجَلِ الثّانِي المَنُوطِ بِاخْتِصاصِهِ بِعلمه تعالى، والأنْسَبُ بِتَهْوِيلِهِ المَبْنِيِّ عَلى مُقارَنَتِهِ لِلطّامَّةِ الكُبْرى، فَإنَّ كَوْنَ بَعْضِهِ مَعْلُومًا لِلْخَلْقِ، ومُضِيَّهُ مِن غَيْرِ أنْ يَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّواهِي، كَما يَسْتَلْزِمُهُ الحَمْلُ عَلى المَعْنى الثّانِي، مُخِلٌّ بِذَلِكَ قَطْعًا، ومَعْنى زِيادَةِ الأجَلِ ونَقْصِهِ فِيما رُوِيَ: تَأْخِيرُ الأجَلِ الأوَّلِ وتَقْدِيمُهُ. ﴿ثُمَّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ اسْتِبْعادٌ واسْتِنْكارٌ لِامْتِرائِهِمْ في البَعْثِ، بَعْدَ مُعايَنَتِهِمْ لِما ذُكِرَ مِنَ الحُجَجِ الباهِرَةِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ؛ أيْ: تَمْتَرُونَ في وُقُوعِهِ وتَحَقُّقِهِ في نَفْسِهِ مَعَ مُشاهَدَتِكم في أنْفُسِكم مِنَ الشَّواهِدِ ما يَقْطَعُ مادَّةَ الِامْتِراءِ بِالكُلِّيَّةِ، فَإنَّ مَن قَدَرَ عَلى إفاضَةِ الحَياةِ وما يَتَفَرَّعُ عَلَيْها مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ، وسائِرِ الكَمالاتِ البَشَرِيَّةِ عَلى مادَّةٍ غَيْرِ مُسْتَعِدَّةٍ لِشَيْءٍ مِنها أصْلًا، كانَ أوْضَحَ اقْتِدارًا عَلى إفاضَتِها عَلى مادَّةٍ قَدِ اسْتَعَدَّتْ لَها وقارَنَتْها مُدَّةً. وَمِن هَهُنا تَبَيَّنَ أنَّ ما قِيلَ مِن أنَّ الأجَلَ الأوَّلَ: هو النَّوْمُ، والثّانِيَ: هو المَوْتُ، أوْ أنَّ الأوَّلَ: أجَلُ الماضِينَ، والثّانِي: أجَلُ الباقِينَ، أوْ أنَّ الأوَّلَ: مِقْدارُ ما مَضى مِن عُمُرِ كُلِّ أحَدٍ، والثّانِيَ: مِقْدارُ ما بَقِيَ مِنهُ؛ مِمّا لا وجْهَ لَهُ أصْلًا، لِما رَأيْتَ مِن أنَّ مَساقَ النَّظْمِ الكَرِيمِ اسْتِبْعادُ امْتِرائِهِمْ في البَعْثِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْ وقْتِهِ بِالأجَلِ المُسَمّى، فَحَيْثُ أُرِيدَ بِهِ أحَدُ ما ذُكِرَ مِنَ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ؛ فَفي أيِّ شَيْءٍ يَمْتَرُونَ. وَوَصْفُهم بِالِامْتِراءِ الَّذِي هو الشَّكُّ، وتَوْجِيهُ الِاسْتِبْعادِ إلَيْهِ مَعَ أنَّهم جازِمُونَ بِانْتِفاءِ البَعْثِ، مُصِرُّونَ عَلى إنْكارِهِ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهم: ﴿أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا أإنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ ونَظائِرُهُ؛ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ جَزْمَهُمُ المَذْكُورَ في أقْصى مَراتِبِ الِاسْتِبْعادِ والِاسْتِنْكارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب