الباحث القرآني

﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ﴾ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ مَسُوقٌ مِن قِبَلِهِ تَعالى بِطَرِيقِ تَلْوِينِ الخِطابِ وصَرْفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى المُخاطَبِينَ اعْتِناءً بِإلْزامِهِمْ إثْرَ بَيانِ حَقارَةِ الدُّنْيا وعُلُوِّ شَأْنِ الآخِرَةِ بِواسِطَتِهِ ﷺ، فَلا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ أوْ في مَحَلِّ النَّصْبِ داخِلٌ تَحْتَ القَوْلِ المَأْمُورِ بِهِ أيْ: أيْنَما تَكُونُوا في الحَضَرِ والسَّفَرِ يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ الَّذِي لِأجْلِهِ تَكْرَهُونَ القِتالَ زَعْمًَا مِنكم أنَّهُ مِن مَظانِّهِ وتُحِبُّونَ القُعُودَ عَنْهُ عَلى زَعْمِ أنَّهُ مَنجاةٌ مِنهُ، وفي لَفْظِ الإدْراكِ إشْعارٌ بِأنَّهم في الهَرَبِ مِنَ المَوْتِ وهو مُجِدٌّ في طَلَبِهِمْ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى حَذْفِ الفاءِ كَما في قَوْلِهِ: [مَن يَفْعَلُ الحَسَناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها] أوْ عَلى اعْتِبارِ وُقُوعِ "أيْنَما كُنْتُمْ" في مَوْقِعِ ﴿أيْنَما تَكُونُوا﴾ أوْ عَلى أنَّهُ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ و"أيْنَما تَكُونُوا" مُتَّصِلٌ بِـ"لا تُظْلَمُونَ" أىْ لا تُنْقَصُونَ شَيْئًَا مِمّا كُتِبَ مِن آجالِكم أيْنَما تَكُونُوا في مَلاحِمِ الحُرُوبِ ومَعارِكِ الخُطُوبِ. ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ في حُصُونٍ رَفِيعَةٍ أوْ قُصُورٍ مُحَصَّنَةٍ. وقالَ السُّدِّيُّ وقَتادَةُ: بُرُوجِ السَّماءِ، يُقالُ: شادَ البِناءَ وأشادَهُ وشَيَّدَهُ: رَفَعَهُ. وقُرِئَ "مُشِيدَةٍ" بِكَسْرِ الياءِ وصْفًَا لَها بِفِعْلِ فاعِلِها مَجازًَا كَما في قَصِيدَةٍ شاعِرَةٍ، و"مَشِيدَةٍ" مِن شادَ القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أوْ طَلاهُ بِالشِّيدِ وهو الجِصُّ وجَوابُ "لَوْ" مَحْذُوفٌ اعْتِمادًَا عَلى دِلالَةِ (p-205)ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ أيْ: ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى أُخْرى مِثْلِها، أيْ: لَوْ لَمْ تَكُونُوا في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ولَوْ كُنْتُمْ إلَخْ، وقَدِ اطَّرَدَ حَذْفُها لِدِلالَةِ المَذْكُورِ عَلَيْها دِلالَةً واضِحَةً فَإنَّ الشَّيْءَ إذا تَحَقَّقَ عِنْدَ وُجُودِ المانِعِ فَلَأنْ يَتَحَقَّقَ عِنْدَ عَدَمِهِ أوْلى، وعَلى هَذِهِ النُّكْتَةِ يَدُورُ ما في "لَوْ" الوَصْلِيَّةِ مِنَ التَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ وقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ﴾ . ﴿وَإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ جِيءَ بِهِ عَقِيبَ ما حُكِيَ عَنِ المُسْلِمِينَ لِما بَيْنَهُما مِنَ المُناسَبَةِ في اشْتِمالِها عَلى إسْنادِ ما يَكْرَهُونَهُ إلى بَعْضِ الأُمُورِ وكَراهَتِهِمْ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، والضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ والمُنافِقِينَ. رُوِيَ أنَّهُ كانَ قَدْ بُسِطَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ فَلَمّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ فَدَعاهم إلى الإيمانِ فَكَفَرُوا أمْسَكَ عَنْهم بَعْضَ الإمْساكِ فَقالُوا: مازِلْنا نَعْرِفُ النَّقْصَ في ثِمارِنا ومَزارِعِنا مُنْذُ قَدِمَ هَذا الرَّجُلُ وأصْحابُهُ وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ أيْ: وإنْ تُصِبْهم نِعْمَةٌ ورَخاءٌ نَسَبُوها إلى اللَّهِ تَعالى وإنْ تُصِبْهم بَلِيَّةٌ مِن جَدْبٍ وغَلاءٍ أضافُوها إلَيْكَ كَما حُكِيَ عَنْ أسْلافِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ فَأُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأنْ يَرُدَّ زَعْمَهُمُ الباطِلَ ويُرْشِدَهم إلى الحَقِّ ويُلْقِمَهُمُ الحَجَرَ بِبَيانِ إسْنادِ الكُلِّ إلَيْهِ تَعالى عَلى الإجْمالِ إذْ لا يَجْتَرِئُونَ عَلى مُعارَضَةِ أمْرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ حَيْثُ قِيلَ: ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ أيْ: كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ النِّعْمَةِ والبَلِيَّةِ مِن جِهَةِ اللَّهِ تَعالى خَلْقًَا وإيجادًَا مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِي مَدْخَلٌ في وُقُوعِ شَيْءٍ مِنهُما بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ كَما تَزْعُمُونَ بَلْ وُقُوعُ الأُولى مِنهُ تَعالى بِالذّاتِ تَفَضُّلًَا ووُقُوعُ الثّانِيَةِ بِواسِطَةِ ذُنُوبِ مَنِ ابْتُلِيَ بِها عُقُوبَةً كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ؛ فَهَذا الجَوابُ المُجْمَلُ في مَعْنى ما قِيلَ رَدًَّا عَلى أسْلافِهِمْ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا إنَّما طائِرُهم عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيْ: إنَّما سَبَبُ خَيْرِهِمْ وشَرِّهِمْ أوْ سَبَبُ إصابَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي هي ذُنُوبُهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى لا عِنْدَ غَيْرِهِ حَتّى يُسْنِدُوها إلَيْهِ ويَطَّيَّرُوا بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ﴾ إلَخْ كَلامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ المُبَيَّنِ وبَيانِهِ مَسُوقٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى لِتَعْيِيرِهِمْ بِالجَهْلِ وتَقْبِيحِ حالِهِمْ والتَّعْجِيبِ مِن كَمالِ غَباوَتِهِمْ، والفاءُ لِتَرْتِيبِهِ عَلى ما قَبْلَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ حالٌ مِن "هَؤُلاءِ" والعامِلُ فِيها ما في الظَّرْفِ مِن مَعْنى الِاسْتِقْرارِ أيْ: وحَيْثُ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَأىُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَهم حالَ كَوْنِهِمْ بِمَعْزِلٍ مِن أنْ يَفْقَهُوا حَدِيثًَا، أوِ اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِنَ الاسْتِفْهامِ كَأنَّهُ قِيلَ: ما بالُهم وماذا يَصْنَعُونَ حَتّى يُتَعَجَّبَ مِنهُ أوْ يُسْألَ عَنْ سَبَبِهِ؟ فَقِيلَ: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًَا مِنَ الأحادِيثِ أصْلًَا فَيَقُولُونَ ما يَقُولُونَ إذْ لَوْ فَقِهُوا شَيْئًَا مِن ذَلِكَ لَفَهِمُوا هَذا النَّصَّ وما في مَعْناهُ وما هو أوْضَحُ مِنهُ مِنَ النُّصُوصِ القرآنيَّةِ النّاطِقَةِ بِأنَّ الكُلَّ فائِضٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى وأنَّ النِّعْمَةَ مِنهُ تَعالى بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ والإحْسانِ والبَلِيَّةَ بِطَرِيقِ العُقُوبَةِ عَلى ذُنُوبِ العِبادِ لاسِيَّما النَّصُّ الوارِدُ عَلَيْهِمْ في صُحُفِ مُوسى وإبْراهِيمَ الَّذِي وفّى أنْ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولَمْ يُسْنِدُوا جِنايَةَ أنْفُسِهِمْ إلى غَيْرِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب