الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَهُ مِنَ الوَعِيدِ وتَأْكِيدِ وُجُوبِ الِامْتِثالِ بِالأمْرِ بِالإيمانِ بِبَيانِ اسْتِحالَةِ المَغْفِرَةِ بِدُونِهِ فَإنَّهم كانُوا يَفْعَلُونَ ما يَفْعَلُونَ مِنَ التَّحْرِيفِ ويَطْمَعُونَ في المَغْفِرَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوُا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأدْنى﴾ أيْ: عَلى التَّحْرِيفِ. ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا﴾ والمُرادُ بِالشِّرْكِ: مُطْلَقُ الكُفْرِ المُنْتَظِمِ لِكُفْرِ اليَهُودِ انْتِظامًَا أوَّلِيًَّا فَإنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَصَّ عَلى إشْراكِ أهْلِ الكِتابِ قاطِبَةً وقَضى بِخُلُودِ أصْنافِ الكَفَرَةِ في النّارِ ونُزُولُهُ في حَقِّ اليَهُودِ كَما قالَ مُقاتِلٌ وهو الأنْسَبُ بِسِياقِ النَّظْمِ الكَرِيمِ وسِياقُهُ لا يَقْتَضِي اخْتِصاصَهُ بِكُفْرِهِمْ بَلْ يَكْفِي انْدِراجُهُ فِيهِ قَطْعًَا بَلْ لا وجْهَ لَهُ أصْلًَا لِاقْتِضائِهِ جَوازَ مَغْفِرَةِ ما دُونُ كُفْرِهِمْ في الشِّدَّةِ مِن أنْواعِ الكُفْرِ، أيْ: لا يَغْفِرُ الكُفْرَ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ بِلا تَوْبَةٍ وإيمانٍ لِأنَّ الحِكْمَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ لِسَدِّ بابِ الكُفْرِ وجَوازُ مَغْفِرَتِهِ بِلا إيمانٍ مِمّا يُؤَدِّي إلى فَتْحِهِ ولِأنَّ ظُلُماتِ الكُفْرِ والمَعاصِي إنَّما يَسْتُرُها نُورُ الإيمانِ فَمَن لَمْ يَكُنْ لَهُ إيمانٌ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي. ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ﴾ عَطْفٌ عَلى خَبَرِ إنَّ وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الشِّرْكِ وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ مَعَ قُرْبِهِ في الذِّكْرِ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ دَرَجَتِهِ وكَوْنِهِ في أقْصى مَراتِبِ القُبْحِ، أيْ: ويَغْفِرُ ما دُونَهُ في القُبْحِ مِنَ المَعاصِي صَغِيرَةً كانَتْ أوْ كَبِيرَةً تَفَضُّلًَا مِن لَدُنْهُ وإحْسانًَا مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ عَنْها لَكِنْ لا لِكُلِّ أحَدٍ بَلْ ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ أيْ: لِمَن يَشاءُ أنْ يَغْفِرَ لَهُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِهِ فَقَطْ لا بِما فَوْقَهُ فَإنَّ مَغْفِرَتَهُما لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِما سَواءً في اسْتِحالَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ المَشِيئَةِ المَبْنِيَّةِ عَلى الحِكْمَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ، فَإنَّ اخْتِصاصَ مَغْفِرَةِ المَعاصِي مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ بِأهْلِ الإيمانِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِيهِ والزَّجْرِ عَنِ الكُفْرِ، ومَن عَلَّقَ المَشِيئَةَ بِكِلا الفِعْلَيْنِ وجَعَلَ المَوْصُولَ الأوَّلَ عِبارَةً عَمَّنْ لَمْ يَتُبْ والثّانِي عَمَّنْ تابَ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ الصَّوابِ. كَيْفَ لا؟ وأنَّ مَساقَ النَّظْمِ الكَرِيمِ لِإظْهارِ كَمالِ عِظَمِ جَرِيمَةِ الكُفْرِ وامْتِيازِهِ عَنْ سائِرِ المَعاصِي بِبَيانِ اسْتِحالَةِ مَغْفِرَتِهِ وجَوازِ مَغْفِرَتِها فَلَوْ كانَ الجَوازُ عَلى تَقْدِيرِ التَّوْبَةِ لَمْ يَظْهَرْ بَيْنَهُما فَرْقٌ لِلْإجْماعِ عَلى مَغْفِرَتِهِما بِالتَّوْبَةِ ولَمْ يَحْصُلْ ما هو المَقْصُودُ مِنَ الزَّجْرِ البَلِيغِ عَنِ الكُفْرِ والطُّغْيانِ والحَمْلِ عَلى التَّوْبَةِ والإيمانِ. ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ إظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في مَوْضِعِ الإضْمارِ لِزِيادَةِ تَقْبِيحِ الإشْراكِ وتَفْظِيعِ حالِ مَن يَتَّصِفُ بِهِ. ﴿فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ أيِ: افْتَرى واخْتَلَقَ مُرْتَكِبًَا إثْمًَا لا يُقادَرُ قَدْرُهُ ويُسْتَحْقَرُ دُونَهُ جَمِيعُ الآثامِ فَلا تَتَعَلَّقُ بِهِ المَغْفِرَةُ قَطْعًَا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب