الباحث القرآني

﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾ (p-241)اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ الأمْرِ بِإخْلاصِ الدِّينِ لَهُ تَعالى ووُجُوبِ الِامْتِثالِ بِهِ، وعَلى القِراءَةِ الأخِيرَةِ مُؤَكِّدٌ لِاخْتِصاصِ الدِّينِ بِهِ تَعالى، أيْ: ألا هو الَّذِي يَجِبُ أنْ يُخَصَّ بِإخْلاصِ الطّاعَةِ لَهُ؛ لِأنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِصِفاتِ الأُلُوهِيَّةِ الَّتِي مِن جُمَلِها الِاطِّلاعُ عَلى السَّرائِرِ والضَّمائِرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾ تَحْقِيقٌ لِحَقِّيَّةِ ما ذُكِرَ مِن إخْلاصِ الدِّينِ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ التَّوْحِيدِ بِبَيانِ بُطْلانِ الشِّرْكِ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ تَرْكِ إخْلاصِهِ، والمَوْصُولُ عِبارَةٌ عَنِ المُشْرِكِينَ ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، خَبَرُهُ مِمّا سَيَأْتِي مِنَ الجُمْلَةِ المُصَدَّرَةِ بِأنْ، والأوْلِياءُ عَنِ المَلائِكَةِ وعِيسى عَلَيْهِمُ السَّلامُ والأصْنامُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ حالٌ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ مِن واوِ اتَّخَذُوا مُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ إشْراكِهِمْ، وعَدَمِ خُلُوصِ دِينِهِمْ. والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ العِلَلِ. و "زُلْفى" مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ عَلى غَيْرِ لَفْظِ المَصْدَرِ مُلاقٍ لَهُ في المَعْنى، أيْ: والَّذِينَ لَمْ يُخْلِصُوا العِبادَةَ لِلَّهِ تَعالى، بَلْ شابُوها بِعِبادَةِ غَيْرِهِ قائِلِينَ: ما نَعْبُدُهم لِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ تَعالى تَقْرِيبًا. ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: وبَيْنَ خُصَمائِهِمُ الَّذِينَ هُمُ المُخْلِصُونَ لِلدِّينِ. وقَدْ حُذِفَ لِدَلالَةِ الحالِ عَلَيْهِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ. أيْ: بَيْنَ أحَدٍ مِنهم وبَيْنَ غَيْرِهِ، وعَلَيْهِ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎ فَما كانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جاءَ سالِمًا. . . أبُو حُجُرٍ إلّا لَيالٍ قَلائِلُ أيْ: بَيْنَ الخَيْرِ وبَيْنِي. وقِيلَ: ضَمِيرٌ بَيْنَهم لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا. ﴿فِي ما هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ مِنَ الدِّينِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ بِالتَّوْحِيدِ والإشْراكِ، وادَّعى كُلُّ فَرِيقٍ مِنهم صِحَّةَ ما انْتَحَلَهُ، وحُكْمُهُ تَعالى في ذَلِكَإدْخالُ المُوَحِّدِينَ الجَنَّةَ، والمُشْرِكِينَ النّارَ. فالضَّمِيرُ لِلْفَرِيقَيْنِ هَذا هو الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَساقُ النَّظْمِ الكَرِيمِ، وأمّا تَجْوِيزُ أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ عِبارَةً عَنِ المَعْبُودِينَ عَلى حَذْفِ العائِدِ إلَيْهِ، وإضْمارِ المُشْرِكِينَ مِن غَيْرِ ذِكْرٍ تَعْوِيلًا عَلى دَلالَةِ المَساقِ عَلَيْهِمْ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المُشْرِكُونَ أوْلِياءَ قائِلِينَ ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، أيْ: بَيْنَ العَبَدَةِ والمَعْبُودِينَ فِيما هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. حَيْثُ يَرْجُو العَبَدَةُ شَفاعَتَهُمْ، وهم يَلْعَنُونَهم فَبَعْدَ الإغْضاءِ عَمّا فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفاتِ بِمَعْزِلٍ مِنَ السَّدادِ، كَيْفَ لا ولَيْسَ فِيما ذُكِرَ مِن طَلَبِ الشَّفاعَةِ واللَّعْنِ مادَّةٌ يَخْتَلِفُ فِيها الفَرِيقانِ اخْتِلافًا مُحْوِجًا إلى الحُكْمِ والفَصْلِ ؟ وإنَّما ذاكَ ما بَيْنَ فَرِيقَيِ المُوَحِّدِينَ والمُشْرِكِينَ في الدُّنْيا مِنَ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ الباقِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وقُرِئَ: ( قالُوا ما نَعْبُدُهم ) فَهو بَدَلٌ مِنَ الصِّلَةِ لا خَبَرٌ لِلْمَوْصُولِ، كَما قِيلَ. إذْ لَيْسَ في الإخْبارِ بِذَلِكَ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ. وقُرِئَ: ( ما نَعْبُدُكم إلّا لِتُقَرِّبُونا ) حِكايَةً لِما خاطَبُوا بِهِ آلِهَتَهُمْ، وقُرِئَ: ( نَعْبُدُهم ) إتْباعًا لِلْباءِ. ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي﴾ أيْ: لا يُوَفَّقُ لِلِاهْتِداءِ إلى الحَقِّ الَّذِي هو طَرِيقُ النَّجاةِ عَنِ المَكْرُوهِ، والفَوْزُ بِالمَطْلُوبِ. ﴿مَن هو كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ أيْ: راسِخٌ في الكَذِبِ، مُبالِغٌ في الكُفْرِ، كَما يُعْرِبُ عَنْهُ قِراءَةُ: ( كَذّابٌ ) و ( كَذُوبٌ ) فَإنَّهُما فاقِدانِ لِلْبَصِيرَةِ، غَيْرُ قابِلَيْنِ لِلِاهْتِداءِ، لِتَغْيِيرِهِما الفِطْرَةَ الأصْلِيَّةَ بِالتَّمَرُّنِ في الضَّلالَةِ، والتَّمادِي في الغَيِّ. والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِما ذُكِرَ مِن حُكْمِهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب