الباحث القرآني

"قالَتْ" اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَتْ مَرْيَمُ حِينَ قالَتْ لَها المَلائِكَةُ ما قالَتْ؟ فَقِيلَ: قالَتْ مُتَضَرِّعَةً إلى رَبِّها: ﴿رَبِّ أنّى يَكُونُ﴾ أيْ: كَيْفَ يَكُونُ أوْ مِن أيْنَ يَكُونُ؟! ﴿لِي ولَدٌ﴾ عَلى وجْهِ الِاسْتِبْعادِ العادِيِّ والتَّعَجُّبِ واسْتِعْظامِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وقِيلَ: عَلى وجْهِ الِاسْتِفْهامِ والِاسْتِفْسارِ بِأنَّهُ بِالتَّزَوُّجِ أوْ بِغَيْرِهِ و "يَكُونُ" إمّا تامَّةٌ و "أنّى" و "اللّامُ" مُتَعَلِّقَتانِ بِها، وتَأْخِيرُ الفاعِلِ عَنِ الجارِّ والمَجْرُورِ لِما مَرَّ مِنَ الاعْتِناءِ بِالمُقَدَّمِ والتَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ، ويَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ اللّامُ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًَا مِن "وَلَدٌ" إذْ لَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً لَهُ، وإمّا ناقِصَةٌ واسْمُها "وَلَدٌ" وخَبَرُها إمّا "أنّى" و "اللّامُ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَرٍ وقَعَ حالًَا كَما مَرَّ، أوْ خَبَرٌ و "أنّى" نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مُحَقِّقَةٌ لِلِاسْتِبْعادِ، أيْ: و الحالُ أنِّي عَلى حالَةٍ مُنافِيَةٍ لِلْوِلادَةِ. "قالَ" اسْتِئْنافٌ كَما سَلَفَ، والقائِلُ هو اللَّهُ تَعالى أوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ الكَلامُ في إعْرابِهِ كَما مَرَّ في قِصَّةِ زَكَرِيّا بِعَيْنِهِ، خَلا أنَّ إيرادَ "يَخْلُقُ" هَهُنا مَكانَ "يَفْعَلُ" هُناكَ لِما أنَّ وِلادَةَ العَذْراءِ مِن غَيْرِ أنْ يَمَسَّها بَشَرٌ أبْدَعُ وأغْرَبُ مِن وِلادَةِ عَجُوزٍ عاقِرٍ مِن شَيْخٍ فانٍ، فَكانَ الخَلْقُ المُنْبِئُ عَنِ الاخْتِراعِ أنْسَبَ بِهَذا المَقامِ مِن مُطْلَقِ الفِعْلِ، ولِذَلِكَ عَقَّبَ بِبَيانِ كَيْفِيَّتِهِ فَقِيلَ: ﴿إذا قَضى أمْرًا﴾ مِنَ الأُمُورِ، أيْ: أرادَ شَيْئًَا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا﴾ وأصْلُ القَضاءِ: الإحْكامُ، أُطْلِقَ عَلى الإرادَةِ الإلَهِيَّةِ القَطْعِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ لِإيجابِها إيّاهُ (p-38)البَتَّةَ، وقِيلَ: الأمْرُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: وقَضى رَبُّكَ ﴿فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾ لا غَيْرَ. ﴿فَيَكُونُ﴾ مِن غَيْرِ رَيْثٍ، وهو كَما تَرى تَمْثِيلٌ لِكَمالِ قدرته تعالى وسُهُولَةِ تَأتِّي المَقْدُوراتِ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ وتَصْوِيرٌ لِسُرْعَةِ حُدُوثِها بِما هو عُلِمَ فِيها مِن طاعَةِ المَأْمُورِ المُطِيعِ لِلْآمِرِ القَوِيِّ المُطاعِ، وبَيانٌ لِأنَّهُ تَعالى كَما يَقْدِرُ عَلى خَلْقِ الأشْياءِ مُدْرِجًَا بِأسْبابٍ ومَوادَّ مُعْتادَةٍ يَقْدِرُ عَلى خَلْقِها دَفْعَةً مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى شَيْءٍ مِنَ الأسْبابِ والمَوادِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب