الباحث القرآني

﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾ المِيمُ عِوَضٌ عَنْ حَرْفِ النِّداءِ ولِذَلِكَ لا يَجْتَمِعانِ وهَذا مِن خَصائِصَ الِاسْمِ الجَلِيلِ، كَدُخُولِهِ عَلَيْهِ مَعَ حَرْفِ التَّعْرِيفِ وقَطْعِ هَمْزَتِهِ ودُخُولِ تاءِ القَسَمِ عَلَيْهِ، وقِيلَ: أصْلُهُ يا أللَّهُ أُمَّنا بِخَيْرٍ، أيِ: اقْصُدْنا بِهِ، فَخُفِّفَ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّداءِ ومُتَعَلِّقاتِ الفِعْلِ وهَمْزَتِهِ. ﴿مالِكَ المُلْكِ﴾ أيْ: مالِكَ جِنْسِ المُلْكِ عَلى الإطْلاقِ مِلْكًَا حَقِيقِيًَّا، بِحَيْثُ تَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَما تَشاءُ إيجادًَا و إعْدامًَا، وإحْياءً وإماتَةً، وتَعْذِيبًَا و إثابَةً، مِن غَيْرِ مُشارِكٍ ولا مُمانِعٍ وهو نِداءٌ ثانٍ عِنْدِ سِيبَوَيْهِ، فَإنَّ المِيمَ عِنْدَهُ تَمْنَعُ الوَصْفِيَّةَ. ﴿تُؤْتِي المُلْكَ﴾ بَيانٌ لِبَعْضِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ الَّذِي تَسْتَدْعِيهِ مالِكِيَّةُ المَلِكِ وتَحْقِيقٌ لِاخْتِصاصِها بِهِ تَعالى حَقِيقَةً وكَوْنِ مالِكِيَّةِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ المَجازِ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ إيثارُ الإيتاءِ الَّذِي هو مُجَرَّدُ الإعْطاءِ عَلى التَّمْلِيكِ المُؤْذِنُ بِثُبُوتِ المالِكِيَّةِ حَقِيقَةً. ﴿مَن تَشاءُ﴾ أيْ: إيتاءَهُ إيّاهُ. ﴿وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ أيْ: نَزْعَهُ مِنهُ، فالمُلْكُ الأوَّلُ حَقِيقِيٌّ عامٌّ ومَمْلُوكِيَّتُهُ حَقِيقِيَّةٌ، والآخَرانِ مَجازِيّانِ خاصّانِ ونِسْبَتُهُما إلى صاحِبِهِما مَجازِيَّةٌ، وقِيلَ: المُلْكُ الأوَّلُ عامٌّ والآخَرانِ بَعْضانِ مِنهُ، فَتَأمَّلْ. وقِيلَ: المُرادُ بِالمُلْكِ: النُّبُوَّةُ، و نَزْعُها: نَقْلُها مِن قَوْمٍ إلى آخَرِينَ. ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشاءُ﴾ أنْ تُعِزَّهُ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ أوْ فِيهِما بِالنَّصْرِ والتَّوْفِيقِ. ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشاءُ﴾ أنْ تُذِلَّهُ في إحْداهُما أوْ فِيهِما مِن غَيْرِ مُمانَعَةٍ مِنَ الغَيْرِ ولا مُدافَعَةٍ. ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ تَعْرِيفُ الخَيْرِ لِلتَّعْمِيمِ، وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِلتَّخْصِيصِ، أيْ: بِقُدْرَتِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ لا بِقُدْرَةِ أحَدٍ غَيْرِكَ، تَتَصَرَّفُ (p-22)فِيهِ قَبْضًَا وبَسْطًَا حَسْبَما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُكَ، وتَخْصِيصُ الخَيْرِ بِالذِّكْرِ لِما أنَّهُ مَقْضِيٌّ بِالذّاتِ، وأمّا الشَّرُّ فَمَقْضِيٌّ بِالعَرَضِ، إذْ ما مِن شَرٍّ جُزْئِيٍّ إلّا وهو مُتَضَمِّنٌ لِخَيْرٍ كُلِّيٍّ أوْ لِأنَّ في حُصُولِ الشَّرِّ دَخْلًَا لِصاحِبِهِ في الجُمْلَةِ، لِأنَّهُ مِن أجْزِيَةِ أعْمالِهِ، وأمّا الخَيْرُ فَفَضْلٌ مَحْضٌ أوْ لِرِعايَةِ الأدَبِ أوْ لِأنَّ الكَلامَ فِيهِ. فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا خَطَّ الخَنْدَقَ عامَ الأحْزابِ وقَطَعَ لِكُلِّ عَشْرَةٍ مِن أهْلِ المَدِينَةِ أرْبَعِينَ ذِراعًَا وأخَذُوا يَحْفِرُونَهُ خَرَجَ مِن بَطْنِ الخَنْدَقِ صَخْرَةٌ كالتَّلِّ لَمْ تَعْمَلْ فِيها المَعاوِلُ، فَوَجَّهُوا سَلْمانَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُخْبِرُهُ، فَجاءَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأخَذَ مِنهُ المِعْوَلَ فَضَرَبَها ضَرْبَةً صَدَّعَتْها وبَرَقَ مِنها بَرْقٌ أضاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها لَكَأنَّ مِصْباحًَا في جَوْفِ بَيْتٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ وكَبَّرَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ، وقالَ: أضاءَتْ لِي مِنها قُصُورُ الحِيرَةِ كَأنَّها أنْيابُ الكِلابِ، ثُمَّ ضَرَبَ الثّانِيَةَ فَقالَ: أضاءَتْ لِي مِنها القُصُورُ الحُمْرُ مِن أرْضِ الرُّومِ، ثُمَّ ضَرَبَ الثّالِثَةَ فَقالَ: أضاءَتْ لِي قُصُورُ صَنْعاءَ، وأخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلى كُلِّها، فَأبْشِرُوا، فَقالَ المُنافِقُونَ: ألا تَعْجَبُونَ يُمَنِّيكم ويَعِدُكُمُ الباطِلَ ويُخْبِرُكم أنَّهُ يُبْصِرُ مِن يَثْرِبَ قُصُورَ الحِيرَةِ ومَدائِنَ كِسْرى وأنَّها تُفْتَحُ لَكم وأنْتُمْ إنَّما تَحْفِرُونَ الخَنْدَقَ مِنَ الفَرَقِ لا تَسْتَطِيعُونَ أنْ تَبْرُزُوا، فَنَزَلَتْ. ﴿إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِما سَبَقَ وتَحْقِيقٌ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب