الباحث القرآني

﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِوَعْدِهِ المُؤْمِنِينَ ووَعِيدِهِ المُنافِقِينَ بِالعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هي الفَضِيحَةُ والخِزْيُ إثْرَ بَيانِ عُقُوبَتِهِمُ الأُخْرَوِيَّةِ، والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ: المُخْلِصُونَ، وأمّا الخِطابُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لِجُمْهُورِ المُصَدِّقِينَ مِن أهْلِ الإخْلاصِ وأهْلِ النِّفاقِ فَفِيهِ التِفاتٌ في ضِمْنِ التَّلْوِينِ، والمُرادُ بِما هم عَلَيْهِ اخْتِلاطُ بَعْضِهِمْ بَعْضًَا واسْتِواؤُهم في إجْراءِ أحْكامِ الإسْلامِ عَلَيْهِمْ؛ إذْ هو القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ. وقِيلَ: إنَّهُ لِلْكُفّارِ والمُنافِقِينَ - وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ ومُقاتِلٍ والكَلْبِيِّ وأكْثَرِ المُفَسِّرِينَ- فَفِيهِ تَلْوِينٌ فَقَطْ. ولَعَلَّ "المُنافِقِينَ" عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لِلْكُفّارِ وإلّا فَلا شَرِكَةَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والمُنافِقِينَ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، والمُرادُ بِما هم عَلَيْهِ ما مَرَّ مِنَ القَدْرِ المُشْتَرَكِ، فَإنَّهُ كَما يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلى الفَرِيقَيْنِ مَعًَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلى كُلٍّ مِنهُما لا الكُفْرِ والنِّفاقِ كَما قِيلَ، فَإنَّ المُؤْمِنِينَ ما كانُوا مُشارِكِينَ لَهم في ذَلِكَ حَتّى لا يُتْرَكُوا عَلَيْهِ. وقِيلَ: إنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ خاصَّةً -وَهُوَ قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ المَعانِي- فَفِيهِ تَلْوِينٌ والتِفاتٌ كَما مَرَّ، والتَّعَرُّضُ لِإيمانِهِمْ قَبْلَ الخِطابِ لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، والمُرادُ بِما هم عَلَيْهِ ما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ والأوَّلُ هو الأقْرَبُ، وإلَيْهِ جَنَحَ المُحَقِّقُونَ مِن أهْلِ التَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِ صَرِيحًَا في كَوْنِ المُرادِ بِما هم عَلَيْهِ ما ذُكِرَ مِنَ القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ مِن حَيْثُ هو مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُما، بِخِلافِ القَوْلَيْنِ الأخِيرَيْنِ فَإنَّهُما بِمَعْزِلٍ مِن ذَلِكَ، كَيْفَ لا؟ والمَفْهُومُ مِمّا عَلَيْهِ المُنافِقُونَ هو الكُفْرُ والنِّفاقُ، ومِمّا عَلَيْهِ المُؤْمِنُونَ هو الإيمانُ والإخْلاصُ لا القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَهُما، ولَئِنْ فُهِمَ ذَلِكَ فَإنَّما يُفْهَمُ مِن حَيْثُ الِانْتِسابُ إلى أحَدِهِما لا مِن حَيْثُ الِانْتِسابُ إلَيْهِما مَعًَا وعَلَيْهِ يَدُورُ أمْرُ الِاخْتِلاطِ المُحْوِجِ إلى الإفْرازِ، واللّامُ في "لِيَذَرَ" إمّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالخَبَرِ المُقَدَّرِ لِكانَ كَما هو رَأْيُ البَصْرِيَّةِ وانْتِصابُ الفِعْلِ بَعْدَها بِأنِ المُقَدَّرَةِ، أيْ: ما كانَ اللَّهُ مُرِيدًَا أوْ مُتَصَدِّيًَا لِأنْ يَذَرَ المُؤْمِنِينَ إلَخْ فَفي تَوْجِيهِ النَّفْيِ إلى إرادَةِ الفِعْلِ تَأْكِيدٌ ومُبالَغَةٌ لَيْسَتْ في تَوْجِيهِهِ إلى نَفْسِهِ، (p-119)وَإمّا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ناصِبَةٌ لِلْفِعْلِ بِنَفْسِها كَما هو رَأْيُ الكُوفِيَّةِ، ولا يَقْدَحُ في ذَلِكَ زِيادَتُها كَما لا يَقْدَحُ زِيادَةُ حُرُوفِ الجَرِّ في عَمَلِها، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ غايَةٌ لِما يُفِيدُهُ النَّفْيُ المَذْكُورُ كَأنَّهُ قِيلَ: ما يَتْرُكُهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى ذَلِكَ الِاخْتِلاطِ بَلْ يُقَدِّرُ الأُمُورَ ويُرَتِّبُ الأسْبابَ حَتّى يَعْزِلَ المُنافِقَ مِنَ المُؤْمِنِ، وفي التَّعْبِيرِ عَنْهُما بِما ورَدَ بِهِ النَّظْمُ الكَرِيمُ تَسْجِيلٌ عَلى كُلٍّ مِنهُما بِما يَلِيقُ بِهِ وإشْعارٌ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، وإفْرادُ الخَبِيثِ والطَّيِّبِ مَعَ تَعَدُّدِ ما أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنهُما وتَكَثُّرِهِ، لا سِيَّما بَعْدَ ذِكْرِ ما أُرِيدَ بِأحَدِهِما -أعْنِي المُؤْمِنِينَ- بِصِيغَةِ الجَمْعِ لِلْإيذانِ بِأنَّ مَدارَ إفْرازِ أحَدِ الفَرِيقَيْنِ مِنَ الآخَرِ هو اتِّصافُهُما بِوَصْفِهِما لا خُصُوصِيَّةُ ذاتِهِما وتَعَدُّدُ آحادِهِما كَما في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ أدْنى ألا تَعُولُوا﴾ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ﴾ حَيْثُ قَصَدَ الدِّلالَةَ عَلى الِاتِّصافِ بِالوَصْفِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِ المَوْصُوفِ مِنَ العُقَلاءِ أوْ غَيْرِهِمْ، وتَعْلِيقُ المَيْزِ بِالخَبِيثِ المُعَبَّرِ بِهِ عَنِ المُنافِقِ مَعَ أنَّ المُتَبادِرَ مِمّا سَبَقَ مِن عَدَمِ تَرْكِ المُؤْمِنِينَ عَلى الِاخْتِلاطِ تَعْلِيقُهُ بِهِمْ وإفْرازُهم عَنِ المُنافِقِينَ لِما أنَّ المَيْزَ الواقِعَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ إنَّما بِالتَّصَرُّفِ في المُنافِقِينَ وتَغْيِيرِهِمْ مِن حالٍ إلى حالٍ مُغايِرَةٍ لِلْأُولى مَعَ بَقاءِ المُؤْمِنِينَ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِن أصْلِ الإيمانِ وإنْ ظَهَرَ مَزِيدُ إخْلاصِهِمْ لا بِالتَّصَرُّفِ فِيهِمْ وتَغْيِيرِهِمْ مِن حالٍ إلى حالٍ أُخْرى مَعَ بَقاءِ المُنافِقِينَ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الاسْتِتارِ، ولِأنَّ فِيهِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ لِلْوَعِيدِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ وإنَّما لَمْ يُنْسَبْ عَدَمُ التَّرْكِ إلَيْهِمْ لِما أنَّهُ مُشْعِرٌ بِالِاعْتِناءِ بِشَأْنِ مَن نُسِبَ إلَيْهِ فَإنَّ المُتَبادِرَ مِنهُ عَدَمُ التَّرْكِ عَلى حالَةٍ غَيْرِ مُلائِمَةٍ كَما يَشْهَدُ بِهِ الذَّوْقُ السَّلِيمُ. وقُرِئَ "حَتّى يُمَيِّزَ" مِنَ التَّمْيِيزِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ تَمْهِيدٌ لِبَيانِ المَيْزِ المَوْعُودِ عَلى طَرِيقِ تَجْرِيدِ الخِطابِ لِلْمُخْلِصِينَ تَشْرِيفًَا لَهم. وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مِن يَشاءُ﴾ إشارَةٌ إلى كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في المَوْضِعَيْنِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ فالمَعْنى: ما كانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَ المُخْلِصِينَ عَلى الِاخْتِلاطِ بِالمُنافِقِينَ بَلْ يُرَتِّبُ المَبادِئَ حَتّى يُخْرِجَ المُنافِقِينَ مِن بَيْنِهِمْ وما يَفْعَلُ ذَلِكَ بِاطِّلاعِكم عَلى ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ والنِّفاقِ ولَكِنَّهُ تَعالى يُوحِي إلى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وبِما ظَهَرَ مِنهم مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ حَسْبَما حُكِيَ عَنْهم بَعْضُهُ فِيما سَلَفَ، فَيَفْضَحُهم عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ ويُخَلِّصُكم مِن خِسَّةِ الشُّرَكاءِ وسُوءِ جِوارِهِمْ، والتَّعَرُّضُ لِلِاجْتِباءِ لِلْإيذانِ بِأنَّ الوُقُوفَ عَلى أمْثالِ تِلْكَ الأسْرارِ الغَيْبِيَّةِ لا يَتَأتّى إلّا مِمَّنْ رَشَّحَهُ اللَّهُ تَعالى لِمَنصِبٍ جَلِيلٍ تَقاصَرَتْ عَنْهُ هِمَمُ الأُمَمِ واصْطَفاهُ عَلى الجَماهِيرِ لِإرْشادِهِمْ، وتَعْمِيمُ الِاجْتِباءِ لِسائِرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّ شَأْنَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا البابِ أمْرٌ مَتِينٌ لَهُ أصْلٌ أصِيلٌ جارٍ عَلى سُنَّةِ اللَّهِ تَعالى المَسْلُوكَةِ فِيما بَيْنَ الرُّسُلِ الخالِيَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وتَعْمِيمُ الأمْرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ مَعَ أنَّ سَوْقَ النَّظْمِ الكَرِيمِ لِلْإيمانِ بِالنَّبِيِّ ﷺ لِإيجابِ الإيمانِ بِهِ بِالطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ والإشْعارِ بِأنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإيمانِ بِالكُلِّ لِأنَّهُ مُصَدِّقٌ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الرُّسُلِ، وهم شُهَداءُ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمَأْمُورُ بِهِ الإيمانُ بِكُلِّ ما جاءَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَيَدْخُلُ فِيهِ تَصْدِيقُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما أخْبَرَ بِهِ مِن أحْوالِ المُنافِقِينَ دُخُولًَا أوَّلِيًَّا هَذا هو الَّذِي يَقْتَضِيهِ جَزالَةُ النَّظْمِ الكَرِيمِ، وقَدْ جُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لا يَتْرُكُكم مُخْتَلِطِينَ حَتّى يُمَيِّزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِأنْ يُكَلِّفَكُمُ التَّكالِيفَ الصَّعْبَةَ الَّتِي لا يَصْبِرُ عَلَيْها إلّا الخُلَّصُ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ تَعالى قُلُوبَهم كَبَذْلِ الأرْواحِ في الجِهادِ وإنْفاقِ الأمْوالِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، (p-120)فَيَجْعَلَ ذَلِكَ عِيارًَا عَلى عَقائِدِكم وشاهِدًَا بِضَمائِرِكم حَتّى يَعْلَمَ بَعْضُكم بِما في قَلْبِ بَعْضٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلالِ لا مِن جِهَةِ الوُقُوفِ عَلى ذاتِ الصُّدُورِ فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ. وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ الِاسْتِدْراكَ بِاجْتِباءِ الرُّسُلِ المُنْبِئَ عَنْ مَزِيدِ مَزِيَّتِهِمْ وفَضْلِ مَعْرِفَتِهِمْ عَلى الخَلْقِ إثْرَ بَيانِ قُصُورِ رُتْبَتِهِمْ عَنِ الوُقُوفِ عَلى خَفايا السَّرائِرِ صَرِيحٌ في أنَّ المُرادَ إظْهارُ تِلْكَ السَّرائِرِ بِطَرِيقِ الوَحْيِ لا بِطَرِيقِ التَّكْلِيفِ بِما يُؤَدِّي إلى خُرُوجِ أسْرارِهِمْ عَنْ رُتْبَةِ الخَفاءِ، وأقْرَبُ مِن ذَلِكَ حَمْلُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى أنْ تَكُونَ مَسُوقَةً لِبَيانِ الحِكْمَةِ في إمْلائِهِ تَعالى لِلْكَفَرَةِ إثْرَ بَيانِ شَرِّيَّتِهِ لَهم فالمَعْنى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُخْلِصِينَ عَلى الِاخْتِلاطِ أبَدًَا كَما تَرَكَهم كَذَلِكَ إلى الآنَ لِسِرٍّ يَقْتَضِيهِ بَلْ يَفْرِزُ عَنْهُمُ المُنافِقِينَ ولِذَلِكَ فَعَلَهُ يَوْمَئِذٍ حَيْثُ خَلّى الكَفَرَةَ وشَأْنَهم فَأبْرَزَ لَهم صُورَةَ الغَلَبَةِ فَأظْهَرَ مَن في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما فِيها مِنَ الخَبائِثِ وافْتُضِحُوا عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ. وقِيلَ: قالَ الكافِرُونَ: إنْ كانَ مُحَمَّدٌ صادِقًَا فَلْيُخْبِرْنا مَن يُؤْمِنُ مِنّا ومَن يَكْفُرُ فَنَزَلَتْ. ﴿وَإنْ تُؤْمِنُوا﴾ أيْ: بِما ذَكَرَ حَقَّ الإيمانِ. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ أيْ: عَدَمَ مُراعاةِ حُقُوقِهِ أوِ النِّفاقَ. ﴿فَلَكُمْ﴾ بِمُقابَلَةِ ذَلِكَ الإيمانِ والتَّقْوى أجْرٌ عَظِيمٌ لا يُبْلَغُ كُنْهُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب