الباحث القرآني

﴿بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ﴾ لَمّا نَفى عَنْهم عَلِمَ الغَيْبِ وأكَّدَ ذَلِكَ بِنَفْيِ شُعُورِهِمْ بِوَقْتِ ما هو مَصِيرُهم لا مَحالَةَ بُولِغَ في تَأْكِيدِهِ وتَقْرِيرِهِ بِأنْ أضْرَبَ عَنْهُ وبَيَّنَ أنَّهم في جَهْلٍ أفْحَشَ مِن جَهْلِهِمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أحْوالَ الآخِرَةِ مُطْلَقًا مَعَ تَعاضُدِ أسْبابِ مَعْرِفَتِها عَلى أنَّ مَعْنى ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ: تَدارَكَ وتَتابَعَ عِلْمُهم في شَأْنِ الآخِرَةِ الَّتِي ما ذُكِرَ مِنَ البَعْثِ حالٌ مِن أحْوالِها حَتّى انْقَطَعَ ولَمْ يَبْقَ لَهم عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِمّا سَيَكُونُ فِيها قَطْعًا، لَكِنْ لا عَلى مَعْنى أنَّهُ (p-297)كانَ لَهم عِلْمٌ بِذَلِكَ عَلى الحَقِيقَةِ ثُمَّ انْتَفى شَيْئًا فَشَيْئًا، بَلْ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ بِتَنْزِيلِ أسْبابِ العِلْمِ ومَبادِئِهِ مِنَ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ والسَّمْعِيَّةِ مَنزِلَةَ نَفْسِهِ وإجْراءَ تَساقُطِها عَنْ دَرَجَةِ اعْتِبارِهِمْ كُلَّما لاحَظُوها مُجْرى تَتابُعِها إلى الِانْقِطاعِ، ثُمَّ أضْرَبَ وانْتَقَلَ عَنْ بَيانِ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِها إلى بَيانِ ما هو أسْوَأُ مِنهُ وهو حِيرَتُهم في ذَلِكَ حَيْثُ قِيلَ: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِنها﴾ أيْ: في شَكٍّ مُرِيبٍ مِن نَفْسِ الآخِرَةِ وتَحَقُّقِها كَمَن تَحَيَّرَ في أمْرٍ لا يَجِدُ عَلَيْهِ دَلِيلًا فَضْلًا عَنِ الأُمُورِ الَّتِي سَتَقَعُ فِيها، ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إلى بَيانِ أنَّ ما هم فِيهِ أشَدُّ وأفْظَعُ مِنَ الشَّكِّ حَيْثُ قِيلَ: ﴿بَلْ هم مِنها عَمُونَ﴾ بِحَيْثُ لا يَكادُونَ يُدْرِكُونَ دَلائِلَها لِاخْتِلالِ بَصائِرِهِمْ بِالكُلِّيَّةِ. وقُرِئَ: "بَلْ أدَّرِكَ عِلْمُهُمْ" بِمَعْنى: انْتَهى وفَنِيَ، وقَدْ فَسَّرَهُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: اضْمَحَلَّ عِلْمُهم. وقِيلَ: كِلْتا الصِّيغَتَيْنِ عَلى مَعْناها الظّاهِرِ، أيْ: تَكامَلَ واسْتَحْكَمَ، أوْ تَمَّ أسْبابُ عِلْمِهِمْ بِأنَّ القِيامَةَ كائِنَةٌ لا مَحالَةَ مِنَ الآياتِ القاطِعَةِ والحُجَجِ السّاطِعَةِ وتَمَكَّنُوا مِنَ المَعْرِفَةِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وهم جاهِلُونَ في ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِنها﴾ إضْرابٌ وانْتِقالٌ مِن وصْفِهِمْ بِمُطْلَقِ الجَهْلِ إلى وصْفِهِمْ بِالشَّكِّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ هم مِنها عَمُونَ﴾ إضْرابٌ مِن وصْفِهِمْ بِالشَّكِّ إلى وصْفِهِمْ بِما هو أشَدُّ مِنهُ وأفْظَعُ مِنَ العَمى، وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ تَنْزِيلَ أسْبابِ العِلْمِ مَنزِلَةَ العِلْمِ سَنَنٌ مَسْلُوكٌ لَكِنْ دَلالَةُ النَّظْمِ الكَرِيمِ عَلى جَهْلِهِمْ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ بِواضِحَةٍ. وقِيلَ: المُرادُ بِوَصْفِهِمْ بِاسْتِحْكامِ العِلْمِ وتَكامُلِهِ: التَّهَكُّمُ بِهِمْ، فَيَكُونَ وصْفًا لَهم بِالجَهْلِ مُبالَغَةً، والإضْرابانِ عَلى ما ذُكِرَ وأصْلُ ادّارَكَ تَدارَكَ، وبِهِ قَرَأ أُبَيٌّ فَأُبْدِلَتِ التّاءُ دالًا وسُكِّنَتْ فَتَعَذَّرَ الِابْتِداءُ فاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ فَصارَ ادّارَكَ. وقُرِئَ: "بَلِ ادَّرَكَ" وأصْلُهُ افْتَعَلَ، و"بَلْ أأدَّرِكُ" بِهَمْزَتَيْنِ، و"بَلْ آأدْرَكَ" بِألْفٍ بَيْنَهُما، و"بَلْ أدْرَكَ" بِالتَّخْفِيفِ والنَّقْلِ، و"بَلِ ادَّرَكَ" بِفَتْحِ اللّامِ وتَشْدِيدِ الدّالِ، وأصْلُهُ بَلْ أدَّرَكَ عَلى الِاسْتِفْهامِ، و"بَلى ادَّرَكَ" و "بَلى أأدْرَكَ" و "أمْ تَدارَكَ" و "أمِ ادَّرَكَ" فَهَذِهِ ثِنْتا عَشْرَةَ قِراءَةً فَما فِيهِ اسْتِفْهامٌ صَرِيحٌ أوْ مُضَمَّنٌ مِن ذَلِكَ فَهو إنْكارٌ ونَفْيٌ، وما فِيهِ بَلى فَإثْباتٌ لِشُعُورِهِمْ وتَفْسِيرٌ لَهُ بِالإدْراكِ عَلى وجْهِ التَّهَكُّمِ الَّذِي هو أبْلَغُ وُجُوهِ النَّفْيِ والإنْكارِ، وما بَعْدَهُ إضْرابٌ عَنِ التَّفْسِيرِ مُبالَغَةً في النَّفْيِ ودَلالَةً عَلى أنَّ شُعُورَهم بِها أنَّهم شاكُّونَ فِيها بَلْ إنَّهم مِنها عَمُونَ أوْ رَدٌّ وإنْكارٌ لِشُعُورِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب