الباحث القرآني

وَ"أمْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ مُنْقَطِعَةٌ، وما فِيها مِن كَلِمَةِ "بَلْ" عَلى القِراءَةِ الأُولى لِلضِّرابِ والِانْتِقالِ مِنَ التَّبْكِيتِ تَعْرِيضًا إلى التَّصْرِيحِ بِهِ خِطابًا عَلى وجْهٍ أظْهَرَ مِنهُ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ والتَّشْدِيدِ، وأمّا عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ فَلِتَثْنِيَةِ التَّبْكِيتِ وتَكْرِيرِ الإلْزامِ كَنَظائِرِها الآتِيَةِ. والهَمْزَةُ لِتَقْرِيرِهِمْ، أيْ: حَمْلِهِمْ عَلى الإقْرارِ بِالحَقِّ عَلى وجْهِ الِاضْطِرارِ فَإنَّهُ لا يَتَمالَكُ أحَدٌ مِمَّنْ لَهُ أدْنى تَمْيِيزٍ ولا يَقْدِرُ عَلى أنْ لا يَعْتَرِفَ بِخَيْرِيَّةِ مَن خَلَقَ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ وأفاضَ عَلى كُلٍّ مِنها ما يَلِيقُ بِهِ مِن مَنافِعِهِ مِن أخَسِّ تِلْكَ المَخْلُوقاتِ وأدْناها، بَلْ بِأنْ لا خَيْرَ يُرى فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ قَطْعًا. و"مِن" مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ مَعَ أمِ المُعادِلَةِ لِلْهَمْزَةِ تَعْوِيلًا عَلى ما سَبَقَ في الِاسْتِفْهامِ الأوَّلِ خَلا أنْ تُشْرِكُونَ هَهُنا بِتاءِ الخِطابِ عَلى القِراءَتَيْنِ مَعًا وهَكَذا في المَواضِعِ الأرْبَعَةِ الآتِيَةِ، والمَعْنى: بَلْ أمَّنَ خَلْقَ قُطْرَيِ العالَمِ الجُسْمانِيِّ ومَبْدَأيْ مَنافِعَ ما بَيْنَهُما. ﴿وَأنْزَلَ لَكُمْ﴾ التِفاتٌ إلى خِطابِ الكَفَرَةِ عَلى القِراءَةِ الأُولى لِتَشْدِيدِ التَّبْكِيتِ والإلْزامِ، أيْ: أنْزَلَ لِأجْلِكم ومَنعَتَكم ﴿مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ أيْ: نَوْعًا مِنهُ هو المَطَرُ ﴿فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ﴾ أيْ: بَساتِينَ مُحْدِقَةً ومُحاطَةً بِالحَوائِطِ ﴿ذاتَ بَهْجَةٍ﴾ أيْ: ذاتَ حُسْنٍ ورَوْنَقٍ يَبْتَهِجُ بِهِ النَّظّارُ ﴿ما كانَ لَكُمْ﴾ أيْ: ما صَحَّ وما أمْكَنَ لَكم ﴿أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها﴾ فَضْلًا عَنْ ثَمَرِها وسائِرِ صِفاتِها البَدِيعَةِ خَيْرٌ أمْ ما تُشْرِكُونَ. وقُرِئَ: "أمَن" بِالتَّخْفِيفِ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ، وتَقْدِيمٌ صِلَتَيِ الإنْزالِ عَلى مَفْعُولِهِ لِما مَرَّ مِرارًا مِنَ التَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ، والِالتِفاتُ إلى التَّكَلُّمِ في (p-294)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "فَأنْبَتْنا﴾ .." لِتَأْكِيدِ اخْتِصاصِ الفِعْلِ بِذاتِهِ تَعالى والإيذانِ بِأنَّ إنْباتَ تِلْكَ الحَدائِقِ المُخْتَلِفَةِ الأصْنافِ والأوْصافِ والألْوانِ والطُّعُومِ والرَّوائِحِ والأشْكالِ مَعَ ما لَها مِنَ الحُسْنِ البارِعِ والبَهاءِ الرّائِعِ بِماءٍ واحِدٍ مِمّا لا يَكادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا هو وحْدَهُ حَسَبَما يُنْبِئُ عَنْهُ تَقْيِيدُها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "ما كانَ لَكُمْ﴾ ..." إلَخِ سَواءٌ كانَتْ صِفَةً لَها أوْ حالًا، وتَوْحِيدُ وصْفِها الأوَّلِ - أعْنِي ذاتَ بَهْجَةٍ - لِما أنَّ المَعْنى جَماعَةُ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ عَلى نَهْجِ قَوْلِهِمُ: النِّساءُ ذَهَبَتْ، وكَذا الحالُ في ضَمِيرِ شَجَرِها. ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ أيْ: أإلَهٌ آخَرُ كائِنٌ مَعَ اللَّهِ الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ أفْعالِهِ الَّتِي لا يَكادُ يَقْدِرُ عَلَيْها غَيْرُهُ حَتّى يَتَوَهَّمَ جَعْلَهُ شَرِيكًا لَهُ تَعالى في العِبادَةِ وهَذا تَبْكِيتٌ لَهم بِنَفْيِ الأُلُوهِيَّةِ عَمّا يُشْرِكُونَهُ بِهِ تَعالى في ضِمْنِ النَّفْيِ الكُلِّيِّ عَلى الطَّرِيقَةِ البُرْهانِيَّةِ بَعْدَ تَبْكِيتِهِمْ بِنَفْيِ الخَيْرِيَّةِ عَنْهُ بِما ذُكِرَ مِنَ التَّرْدِيدِ، فَإنَّ أحَدًا مِمَّنْ لَهُ تَمْيِيزٌ في الجُمْلَةِ كَما لا يَقْدِرُ عَلى إنْكارِ انْتِفاءِ الخَيْرِيَّةِ عَنْهُ بِالمَرَّةِ لا يَكادُ يَقْدِرُ عَلى إنْكارِ انْتِفاءِ الأُلُوهِيَّةِ عَنْهُ رَأْسًا لا سِيَّما بَعْدَ مُلاحَظَةِ انْتِفاءِ أحْكامِها عَمّا سِواهُ تَعالى، وهَكَذا الحالُ في المَواقِعِ الأرْبَعَةِ الآتِيَةِ. وقِيلَ: المُرادُ نَفْيُ أنْ يَكُونَ مَعَهُ تَعالى إلَهٌ آخَرُ فِيما ذُكِرَ مِنَ الخَلْقِ وما عَطَفَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لا عَلى أنَّ التَّبْكِيتَ بِنَفْسِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَقَطْ كَيْفَ لا وهم لا يُنْكِرُونَهُ حَسَبَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ بَلْ بِإشْراكِهِمْ بِهِ تَعالى في العِبادَةِ ما يَعْتَرِفُونَ بِعَدَمِ مُشارَكَتِهِ لَهُ تَعالى فِيما ذُكِرَ مِن لَوازِمِ الأُلُوهِيَّةَ، كَأنَّهُ قِيلَ: "أإلَهٌ آخَرُ مَعَ اللَّهِ" في خَواصِّ الأُلُوهِيَّةِ حَتّى يُجْعَلَ شَرِيكًا لَهُ تَعالى في العِبادَةِ، وقِيلَ: المَعْنى: أغَيْرُهُ يُقْرَنُ بِهِ ويُجْعَلُ لَهُ شَرِيكًا في العِبادَةِ مَعَ تَفَرُّدِهِ تَعالى بِالخَلْقِ والتَّكْوِينِ، فالإنْكارُ لِلتَّوْبِيخِ والتَّبْكِيتِ مَعَ تَحْقِيقِ المُنْكِرِ دُونَ النَّفْيِ كَما في الوَجْهَيْنِ السّابِقَيْنِ، والأوَّلُ هو الأظْهَرُ المُوافِقُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما كانَ مَعَهُ مِن إلَهٍ ...﴾ والأوْفى بِحَقِّ المَقامِ لِإفادَتِهِ نَفْيِ وُجُودِ إلَهٍ آخَرَ مَعَهُ تَعالى رَأْسًا لا نَفْيَ مَعِيَّتِهِ في الخَلْقِ وفُرُوعِهِ فَقَطْ. وقُرِئَ: "أإلَهٌ" بِتَوْسِيطِ مُدَّةٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ وبِإخْراجِ الثّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ. وقُرِئَ: "أإلَهًا" بِإضْمارِ فِعْلٍ يُناسِبُ المَقامَ مِثْلَ: أتَدْعُونَ، أوْ أتُشْرِكُونَ. ﴿بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ إضْرابٌ وانْتِقالٌ مِن تَبْكِيتِهِمْ بِطَرِيقِ الخِطابِ إلى بَيانِ سُوءِ حالِهِمْ وحِكايَتِهِ لِغَيْرِهِمْ، أيْ: بَلْ هم قَوْمٌ عادَتُهُمُ العُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ بِالكُلِّيَّةِ والِانْحِرافِ عَنِ الِاسْتِقامَةِ في كُلِّ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، فَلِذَلِكَ يَفْعَلُونَ ما يَفْعَلُونَ مِنَ العُدُولِ عَنِ الحَقِّ الواضِحِ الَّذِي هو التَّوْحِيدُ، والعُكُوفُ عَلى الباطِلِ البَيِّنِ الَّذِي هو الإشْراكُ. وقِيلَ: يَعْدِلُونَ بِهِ تَعالى غَيْرَهُ، وهو بَعِيدٌ خالٍ عَنِ الإفادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب