الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَطْفٌ عَلى ما يَنْساقُ إلَيْهِ ما قَبْلَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا أعْمالَهم حالًا ومَآلًا كَما وُصِفَ والَّذِينَ كَفَرُوا ﴿أعْمالُهُمْ﴾ أيْ: أعْمالُهُمُ الَّتِي هي مِن أبْوابِ البِرِّ كَصِلَةِ الأرْحامِ وفَكِّ العُناةِ وسِقايَةِ الحاجِّ وعِمارَةِ البَيْتِ وإغاثَةِ المَلْهُوفِينَ وقِرى الأضْيافِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا لَوْ قارَنَهُ الإيمانُ لاسْتَتْبَعَ الثَّوابَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعْمالُهم كَرَمادٍ ...﴾ الآيَةَ. ﴿كَسَرابٍ﴾ وهو ما يُرى في الفَلَواتِ مِن لَمَعانِ الشَّمْسِ عَلَيْها وقْتَ الظَّهِيرَةِ فَيُظَنُّ أنَّهُ ماءٌ يَسْرُبُ، أيْ: يَجْرِي ﴿بِقِيعَةٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو صِفَةٌ لِسَرابٍ، أيْ: كائِنٌ في قاعٍ، وهي الأرْضُ المُنْبَسِطَةُ (p-181)المُسْتَوِيَةُ، وقِيلَ: هي جُمَعُ قاعٍ كَجِيرَةٍ جَمْعُ جارٍ. وقُرِئَ بِقِيعاتٍ بِتاءٍ مَمْدُودَةٍ كَدِيماتٍ، إمّا عَلى أنَّها جَمْعُ قِيعَةٍ أوْ عَلى أنَّ الأصْلَ قِيعَةٌ قَدْ أُشْبِعَتْ فَتْحَةُ العَيْنِ فَتَوَلَّدَ مِنها ألِفٌ. ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً﴾ صِفَةٌ أُخْرى لِسَرابٍ، وتَخْصِيصُ الحُسْبانِ بِالظَّمْآنِ مَعَ شُمُولِهِ لِكُلِّ مَن يَراهُ كائِنًا مَن كانَ مِنَ العَطْشانِ والرَّيّانِ لِتَكْمِيلِ التَّشْبِيهِ بِتَحْقِيقِ شَرِكَةِ طَرَفَيْهِ في وجْهِ الشَّبَهِ الَّذِي هو المَطْلَعُ المُطْمِعُ والمَقْطَعُ المُؤْنِسُ. ﴿حَتّى إذا جاءَهُ﴾ أيْ: إذا جاءَ العَطْشانُ ما حَسِبَهُ ماءً، وقِيلَ: مَوْضِعَهُ. ﴿لَمْ يَجِدْهُ﴾ أيْ: ما حَسِبَهُ ماءً وعَلَّقَ بِهِ رَجاءَهُ ﴿شَيْئًا﴾ أصْلالًا مُحَقَّقًا ولا مُتَوَهَّمًا كَما كانَ يَراهُ مِن قَبْلٌ فَضْلًا عَنْ وِجْدانِهِ ماءً وبِهِ تَمَّ بَيانُ أحْوالِ الكَفَرَةِ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ بَيانٌ لِبَقِيَّةِ أحْوالِهِمُ العارِضَةِ لَهم بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّكْمِلَةِ لِئَلّا يُتَوَّهَمُ أنَّ قُصارى أمْرِهِمْ هو الخَيْبَةُ والقُنُوطُ فَقَطْ كَما هو شَأْنُ الظَّمْآنِ، ويَظْهَرُ أنَّهُ يَعْتَرِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ مِن عَدَمِ وِجْدانِ الكَفَرَةِ مِن أعْمالِهِمُ المَذْكُورَةِ عَيْنًا ولا أثَرًا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ كَيْفَ لا وأنَّ الحُكْمَ بِأنَّ أعْمالَ الكَفَرَةِ كَسَرابٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا حُكْمٌ بِأنَّها بِحَيْثُ يَحْسَبُونَها في الدُّنْيا نافِعَةً لَهم في الآخِرَةِ حَتّى إذا جاءُوها لَمْ يَجِدُوها شَيْئًا، كَأنَّهُ قِيلَ: حَتّى إذا جاءَ الكَفَرَةُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمالَهُمُ الَّتِي كانُوا في الدُّنْيا يَحْسَبُونَها نافِعَةً لَهم في الآخِرَةِ لَمْ يَجِدُوها شَيْئًا ووَجَدُوا اللَّهَ، أيْ: حُكْمَهُ وقَضاءَهُ عِنْدَ المَجِيءِ، وقِيلَ: عِنْدَ العَمَلِ، فَوَفّاهم، أيْ: أعْطاهم وافِيًا كامِلًا حِسابَهم، أيْ: حِسابَ أعْمالِهِمُ المَذْكُورَةِ وجَزاءَها فَإنَّ اعْتِقادَهم لِنَفْعِها بِغَيْرِ إيمانٍ وعَمَلِهِمْ بِمُوجِبِهِ كُفْرٌ عَلى كُفْرِهِ وجَبَ لِلْعِقابِ قَطْعًا. وإفْرادُ الضَّمِيرَيْنِ الرّاجِعَيْنِ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا إمّا لِإرادَةِ الجِنْسِ كالضَّمانِ الواقِعِ في التَّمْثِيلِ، وإمّا لِلْحَمْلِ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم، وكَذا إفْرادُ ما يَرْجِعُ إلى أعْمالِهِمْ. هَذا وقَدْ قِيلَ: نَزَلَ في عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ كانَ قَدْ تَعَبَّدَ في الجاهِلِيَّةِ ولَبِسَ المُسُوحَ والتَمَسَ الدِّينَ فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ كَفْرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب