الباحث القرآني

﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أيْ: دَمًا جامِدًا بِأنْ أحَلْنا النُّطْفَةَ البَيْضاءَ عَلَقَةً حَمْراءَ. ﴿فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ أيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ لا اسْتِبانَةَ ولا تَمايُزَ فِيها. ﴿فَخَلَقْنا المُضْغَةَ﴾ أيْ: غالِبَها ومُعْظَمَها أوْ كُلَّها ﴿عِظامًا﴾ بِأنْ صَلَبْناها وجَعَلْناها عَمُودًا لِلْبَدَنِ عَلى هَيْئاتٍ وأوْضاعٍ مَخْصُوصَةٍ تَقْتَضِيها الحِكْمَةُ. ﴿فَكَسَوْنا العِظامَ﴾ المَعْهُودَةُ ﴿لَحْمًا﴾ مِن بَقِيَّةِ المُضْغَةِ، أوْ مِمّا أنْبَتْنا عَلَيْها بِقُدْرَتِنا مِمّا يَصِلُ إلَيْها، أيْ: كَسَوْنا كُلَّ عَظْمٍ مِن تِلْكَ العِظامِ ما يَلِيقُ بِهِ مِنَ اللَّحْمِ عَلى مِقْدارٍ لائِقٍ بِهِ وهَيْئَةٍ مُناسِبَةٍ لَهُ. واخْتِلافِ العَواطِفِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى تَفاوُتِ الِاسْتِحالاتِ وجَمْعِ العِظامِ لِاخْتِلافِها. وقُرِئَ عَلى التَّوْحِيدِ فِيهِما اكْتِفاءً بِالجِنْسِ، وبِتَوْحِيدِ الأوَّلِ فَقَطْ، وبِتَوْحِيدِ الثّانِي فَحَسْبُ. ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ هي صُورَةُ البَدَنِ، أوِ الرُّوحِ، أوِ القُوى بِنَفْخِهِ فِيهِ، أوِ المَجْمُوعِ، و"ثُمَّ" لِكَمالِ التَّفاوُتِ بَيْنَ الخَلْقَيْنِ. واحْتَجَّ بِهِ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى أنَّ مَن غَصَبَ بَيْضَةً فَأفْرَخَتْ عِنْدَهُ لَزِمَهُ ضَمانُ البَيْضَةِ لا الفَرْخُ لِأنَّهُ خَلْقٌ آَخَرُ. ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ﴾ فَتَعالى شَأْنُهُ في عِلْمِهِ الشّامِلِ وقدرته الباهِرَةِ والِالتِفاتِ إلى الإسْلامِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، والإشْعارِ بِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ الأفاعِيلِ العَجِيبَةِ مِن أحْكامِ الأُلُوهِيَّةِ ولِلْإيذانِ بِأنَّ حَقَّ كُلِّ مَن سُمِعَ ما فُصِّلَ مِنَ اثارِ قدرته عَزَّ وعَلا أوْ لاحَظَهُ أنْ يُسارِعَ إلى التَّكَلُّمِ بِهِ إجْلالًا وإعْظامًا لِشُؤُونِهِ تَعالى. ﴿أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ بَدَلٌ مِنَ الجَلالَةِ، وقِيلَ: نَعْتٌ لَهُ بِناءً عَلى أنَّ الإضافَةَ لَيْسَتْ لَفْظِيَّةً، وقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: هو أحْسَنُ الخالِقِينَ خَلْقًا، أيِ: المُقَدِّرِينَ تَقْدِيرًا حُذِفَ المُمَيِّزُ (p-127)لِدَلالَةِ الخالِقِينَ عَلَيْهِ، كَما حُذِفَ المَأْذُونُ فِيهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ ...﴾ لِدِلالَةِ الصِّلَةِ عَلَيْهِ، أيْ: أحْسَنُ الخالِقِينَ خَلْقًا فالحُسْنُ لِلْخَلْقِ. قِيلَ: نَظِيرُهُ قَوْلُهُ ﷺ: ﴿إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ﴾ أيْ: جَمِيلٌ فِعْلُهُ فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ فانْقَلَبَ مَرْفُوعًا فاسْتَكَنَ. «رُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي سَرْحٍ كانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الوَحْيَ فَلَمّا انْتَهى ﷺ إلى قَوْلِهِ خَلْقًا آخَرَ، سارَعَ عَبْدُ اللَّهِ إلى النُّطْقِ بِهِ قَبْلَ إمْلائِهِ ﷺ فَقالَ: اكْتُبْهُ هَكَذا نَزَلَتْ، فَشَكَّ عَبْدُ اللَّهِ فَقالَ: إنْ كانَ مُحَمَّدٌ يُوحى إلَيْهِ فَأنا كَذَلِكَ، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ كافِرًا ثُمَّ أسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ، وقِيلَ: ماتَ عَلى كُفْرِهِ» . ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَكَذا نَزَلَ يا عُمَرُ،» وكانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ ويَقُولُ: وافَقْتُ رَبِّي في أرْبَعٍ: الصَّلاةُ خَلْفَ المَقامِ، وضَرْبُ الحِجابِ عَلى النِّسْوَةِ، وقَوْلِي لَهُنَّ:أوْ لَيُبْدِلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنكُنَّ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ ...﴾ الآيَةِ. والرّابِعُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ، انْظُرْ كَيْفَ وقَعَتْ هَذِهِ الواقِعَةُ سَبَبًا لِسَعادَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وشَقاوَةِ ابْنِ أبِي سَرْحٍ حَسَبَما قالَ تَعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ . لا يُقالُ فَقَدْ تَكَلَّمَ البَشَرُ ابْتِداءً بِمِثْلِ نَظْمِ القرآن وذَلِكَ قادِحٌ في إعْجازِهِ لِما أنَّ الخارِجَ عَنْ قُدْرَةِ البَشَرِ ما كانَ مِقْدارَ أقْصَرِ السُّوَرِ عَلى أنَّ إعْجازَ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَنُوطٌ بِما قَبْلَها، كَما تُعْرِبُ عَنْهُ الفاءُ فَإنَّها اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب