الباحث القرآني

﴿إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ﴾ ظَرْفٌ لِتُصْنَعَ، عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ وقْتٌ وقَعَ فِيهِ مَشْيُها إلى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، وما تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ القَوْلِ والرَّجْعِ إلى أُمِّها وتَرْبِيَتِها لَهُ بِالبِرِّ والحُنُوِّ، وهو المِصْداقُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ إذْ لا شَفَقَةَ (p-16)أعْظَمُ مِن شَفَقَةِ الأُمِّ وصُنْعِها عَلى مُوجَبِ مُراعاتِهِ تَعالى. وقِيلَ: هو بَدَلٌ مِن ﴿إذْ أوْحَيْنا﴾، عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ: زَمانٌ مُتَّسِعٌ مُتَباعِدُ الأطْرافِ وهو الأنْسَبُ بِما سَيَأْتِي مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ﴾ إلَخَ، فَإنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنِ المِنَنِ الإلَهِيَّةِ، ولا تَعَلُّقَ لِشَيْءٍ مِنها بِالصُّنْعِ المَذْكُورِ. وأمّا كَوْنُهُ ظَرْفًا لَألْقَيْتُ كَما جُوِّزَ، فَرُبَّما يُوهِمُ أنَّ إلْقاءَ المَحَبَّةِ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَ ذَلِكَ، ولا رَيْبَ في أنَّ مُعْظَمَ آَثارِ إلْقائِها ظَهَرَ عِنْدَ فَتْحِ التّابُوتِ. ﴿فَتَقُولُ﴾ أيْ: لِفِرْعَوْنَ وآَسِيَةَ حِينَ رَأتْهُما يَطْلُبانِ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُرْضِعَةً يَقْبَلُ ثَدْيَها وكانَ لا يَقْبَلُ ثَدْيًا، وصِيغَةُ المُضارِعِ في الفِعْلَيْنِ لِحِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ. ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى مَن يَكْفُلُهُ﴾ أيْ: يَضُمُّهُ إلى نَفْسِهِ ويُرَبِّيهِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ بِقَبُولِهِ ثَدْيَها. يُرْوى أنَّهُ فَشا الخَبَرُ بِمِصْرَ أنَّ آَلَ فِرْعَوْنَ أخَذُوا غُلامًا في النِّيلِ لا يَرْتَضِعُ ثَدْيَ امْرَأةٍ، واضْطُرُّوا إلى تَبْلِيغِ النِّساءِ، فَخَرَجَتْ أُخْتُهُ مَرْيَمُ لِتَعْرِفَ خَبَرَهُ، فَجاءَتْهم مُتَنَكِّرَةً، فَقالَتْ ما قالَتْ وقالُوا ما قالُوا، فَجاءَتْ بِأُمِّهِ فَقَبِلَ ثَدْيِها، فالفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَرَجَعْناكَ إلى أُمِّكَ﴾ فَصِيحَةٌ مُعْرِبَةٌ عَنْ مَحْذُوفٍ قَبْلَها يُعْطَفُ عَلَيْهِ ما بَعْدَها، أيْ: فَقالُوا دُلِّينا عَلَيْها فَجاءَتْ بِأُمِّكَ فَرَجَعْناكَ إلَيْها. ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها﴾ بِلِقائِكَ ﴿وَلا تَحْزَنَ﴾ أيْ: لا يَطْرَأُ عَلَيْها الحُزْنُ بِفِراقِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإلّا فَزَوالُ الحُزْنِ مُقَدَّمٌ عَلى السُّرُورِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِقُرَّةِ العَيْنِ، فَإنَّ التَّخْلِيَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى التَّحْلِيَةِ. وقِيلَ: ولا تَحُزْنَ أنْتَ بِفَقْدِ إشْفاقِها. ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾ هي نَفْسُ القِبْطِيِّ الَّذِي اسْتَغاثَهُ الإسْرائِيلِيُّ عَلَيْهِ. ﴿فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ﴾ أيْ: غَمُّ قَتْلِهِ خَوْفًا مِن عِقابِ اللَّهِ تَعالى بِالمَغْفِرَةِ، ومِنِ اقْتِصاصِ فِرْعَوْنَ بِالإنْجاءِ مِنهُ بِالمُهاجَرَةِ إلى مَدْيَنَ. ﴿وَفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ أيِ: ابْتَلَيْناكَ ابْتِلاءً، أوْ فُتُونًا مِنَ الِابْتِلاءِ، عَلى أنَّهُ جَمْعُ فِتَنٍ أوْ فِتْنَةٍ عَلى تَرْكِ الِاعْتِدادِ بِالتّاءِ، كَحُجُوزٍ في حُجْزَةٍ، وبُدُورٍ في بَدْرَةٍ، أيْ: خَلَّصْناكَ مَرَّةً أُخْرى، وهو إجْمالُ ما نالَهُ في سَفَرِهِ مِنَ الهِجْرَةِ عَنِ الوَطَنِ، ومُفارَقَةِ الأُلّافِ، والمَشْيِ راجِلًا، وفَقْدِ الزّادِ. وقَدْ رُوِيَ أنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ سَألَ عَنْهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فَقالَ: خَلَّصْناكَ مِن مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ، وُلِدَ في عامٍ كانَ يُقْتَلُ فِيهِ الوِلْدانُ فَهَذِهِ فِتْنَةٌ يا ابْنَ جُبَيْرٍ، وألْقَتْهُ أُمُّهُ في البَحْرِ، وهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ، وقَتَلَ قِبْطِيًّا، وآَجَرَ نَفْسَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وضَلَّ الطَّرِيقَ، وتَفَرَّقَتْ غَنَمُهُ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وكانَ يَقُولُ عِنْدَ كُلِّ واحِدَةٍ فَهَذِهِ فِتْنَةٌ يا ابْنَ جُبَيْرٍ. ولَكِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظْمُ الكَرِيمُ أنْ لا تُعَدَّ إجارَةُ نَفْسِهِ وما بَعْدَها مِن تِلْكَ الفُتُونِ ضَرُورَةَ أنَّ المُرادَ بِها ما وقَعَ قَبْلَ وُصُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى مَدْيَنَ بِقِيضَةِ الفاءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أهْلِ مَدْيَنَ﴾ . إذْ لا رَيْبَ في أنَّ الإجارَةَ المَذْكُورَةَ وما بَعْدَها مِمّا وقَعَ بَعْدَ الوُصُولِ إلَيْهِمْ. وقَدْ أُشِيرُ بِذِكْرِ لُبْثِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِمْ دُونَ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ إلى جَمِيعِ ما قاساهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في تَضاعِيفِ تِلْكَ السِّنِينَ العَشْرِ مِن فُنُونِ الشَّدائِدِ والمَكارِهِ الِّتِي كُلُّ واحِدٍ مِنها فِتْنَةٌ وأيُّ فِتْنَةٍ ؟ ومَدِينُ بَلْدَةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى ثَمانِيَ مَراحِلَ مِصْرَ. ﴿ثُمَّ جِئْتَ﴾ إلى المَكانِ الَّذِينَ أُونِسَ فِيهِ النّارُ، ووَقَعَ فِيهِ النِّداءُ والجُؤارُ. وفي كَلِمَةِ التَّراخِي إيذانٌ بِأنَّ مَجِيئَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ بَعْدَ اللَّتَيّا، والَّتِي مِن ضَلالِ الطَّرِيقِ وتَفَرُّقِ الغَنَمِ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ الشّاتِيَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ﴿عَلى قَدَرٍ﴾ أيْ: تَقْدِيرِ قدرته، لِأنْ أكِلَكَ وأسْتَنْبِئَكَ في وقْتٍ قَدْ عَيَّنْتُهُ لِذَلِكَ، فَما جِئْتَ إلّا عَلى ذَلِكَ القَدَرِ غَيْرِ مُسْتَقْدِمٍ ولا مُسْتَأْخِرٍ. وقِيلَ: عَلى مِقْدارٍ مِنَ الزَّمانِ يُوحى فِيهِ إلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وهو رَأْسُ أرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا مُوسى﴾ تَشْرِيفٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَنْبِيهٌ عَلى انْتِهاءِ الحِكايَةِ الَّتِي هي تَفْصِيلُ المَرَّةِ الأُخْرى الَّتِي وقَعَتْ قَبْلَ المَرَّةِ المَحْكِيَّةِ أوَّلًا.(p-17)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب