الباحث القرآني

﴿أفَلَمْ يَهْدِ لَهم كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "وَكَذَلِكَ نَجْزِي﴾ .." الآَيَةُ. والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ التَّوْبِيخِيِّ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ المَقامُ، واسْتِعْمالُ الهِدايَةِ بِاللّامِ إمّا لِتَنْزِيلِها مَنزِلَةَ اللّامِ فَلا حاجَةَ (p-49)إلى المَفْعُولِ، أوْ لِأنَّها بِمَعْنى التَّبْيِينِ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. وأيًّا ما كانَ فالفاعِلُ هو الجُمْلَةُ بِمَنصُوبِها ومَعْناها، وضَمِيرُ "لَهُمْ" لِلْمُشْرِكِينَ المُعاصِرِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، والمَعْنى: أغَفَلُوا فَلَمْ يَفْعَلِ الهِدايَةَ لَهم، أوْ فَلَمْ يُبَيَّنْ لَهم مَآَلَ أمْرِهِمْ كَثْرَةُ إهْلاكِنا لِلْقُرُونِ الأُولى، وقَدْ مَرَّ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِن بَعْدِ أهْلِها...﴾ الآَيَةُ. وقِيلَ: الفاعِلُ الضَّمِيرُ العائِدُ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ويُؤَيِّدُهُ القِراءَةُ بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "كَمْ أهْلَكْنا﴾ ..." إلَخِ إمّا مُعَلَّقٌ لِلْفِعْلِ سادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولِهِ، أوْ مُفَسِّرٌ لِمَفْعُولِهِ المَحْذُوفِ هَكَذا قِيلَ. والأوْجَهُ أنْ لا يُلاحَظَ لَهُ مَفْعُولٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: أفَلَمْ يَفْعَلِ اللَّهُ تَعالى لَهُمُ الهِدايَةَ، ثُمَّ قِيلَ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ: ﴿كَمْ أهْلَكْنا..﴾ إلَخِ بَيانًا لِتِلْكَ الهِدايَةِ. "وَمِنَ القُرُونِ" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أنَّهُ وصْفٌ لِمُمَيِّزِكم، أيْ: كَمْ قَرْنًا كائِنًا مِنَ القُرُونِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَمْشُونَ في مَساكِنِهِمْ﴾ حالٌ مِنَ القُرُونِ، أوْ مِن مَفْعُولِ أهْلَكْنا، أيْ: أهْلَكْناهم وهم في حالِ أمْنٍ وتَقَلُّبٍ في دِيارِهِمْ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في لَهم مُؤَكِّدٌ لِلْإنْكارِ، والعامِلُ "يُهْدَ"، والمَعْنى: أفَلَمْ يَهْدِ لَهم إهْلاكُنا لِلْقُرُونِ السّالِفَةِ مِن أصْحابِ الحِجْرِ وثَمُودَ وقَرْياتِ قَوْمِ لُوطٍ حالَ كَوْنِهِمْ ماشِينَ في مَساكِنِهِمْ إذا سافَرُوا إلى الشّامِ مُشاهِدِينَ لِآَثارِ هَلاكِهِمْ، مَعَ أنَّ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُ أنْ يَهْتَدُوا إلى الحَقِّ فَيَعْتَبِرُوا لِئَلّا يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ. وقُرِئَ: "يَمْشُونَ" عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، أيْ: يُمَكَّنُونَ مِنَ المَشْيِ. ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْإنْكارِ وتَقْرِيرٌ لِلْهِدايَةِ مَعَ عَدَمِ اهْتِدائِهِمْ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "كَمْ أهْلَكْنا﴾ .." إلَخِ، وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإشْعارِ بِبُعْدِ مَنزِلَتِهِ وعُلُوِّ شَأْنِهِ في بابِهِ ﴿لآياتٍ﴾ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ واضِحاتِ الهِدايَةِ ظاهِراتِ الدَّلالَةِ عَلى الحَقِّ، فَإذَنْ هم هادَوْا أيَّما هادُوا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ كَلِمَةُ "فِي" تَجْرِيدِيَّةً فافْهَمْ ﴿لأُولِي النُّهى﴾ لِذَوِي العُقُولِ النّاهِيَةِ عَنِ القَبائِحِ الَّتِي مِن أقْبَحِها ما يَتَعاطاهُ كَفّارُ مَكَّةَ مِنَ الكُفْرِ بِآَياتِ اللَّهِ تَعالى، والتَّعامِي عَنْها وغَيْرِ ذَلِكَ مِن فُنُونِ المَعاصِي، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ هو الفاعِلُ لا المَفْعُولُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب