الباحث القرآني

﴿إنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ ﴿وَأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ تَعْلِيلٌ لِما يُوجِبُهُ النَّهْيُ فَإنَّ اجْتِماعَ أسْبابِ الرّاحَةِ فِيها مِمّا يُوجِبُ المُبالَغَةَ في الِاهْتِمامِ بِتَحْصِيلِ (p-46)مَبادِئِ البَقاءِ فِيها، والجِدِّ في الِانْتِهاءِ عَمّا يُؤَدِّي إلى الخُرُوجِ عَنْها، والعُدُولِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِأنَّ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيها تَنَعُّمًا بِفُنُونِ النِّعَمِ مِنَ المَآَكِلِ والمَشارِبِ، وتَمَتُّعًا بِأصْنافِ المَلابِسِ البَهِيَّةِ والمَساكِنِ المَرْضِيَّةِ، مَعَ أنَّ فِيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ في البَقاءِ فِيها ما لا يَخْفى إلى ما ذُكِرَ مِن نَفْيِ نَقائِضِها الَّتِي هي الجُوعُ والعَطَشُ والعُرْيُ والضُّحى لِتَذْكِيرِ تِلْكَ الأُمُورِ المُنْكَرَةِ والتَّنْبِيهِ عَلى ما فِيها مِن أنْواعِ الشَّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ عَنْها لِيُبالِغَ في التَّحامِي عَنِ السَّبَبِ المُؤَدِّي إلَيْها، عَلى أنَّ التَّرْغِيبَ قَدْ حَصَلَ بِما سَوَّغَ لَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِجَمِيعِ ما فِيها سِوى ما اسْتَثْنى مِنَ الشَّجَرَةِ حَسْبَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى:" ويا آدَم اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّة وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما " . وقَدْ طُوِيَ ذِكْرُهُ هَهُنا اكْتِفاءً بِما ذَكَرَ في مَوْضِعٍ آَخَرَ، واقْتَصَرَ عَلى ما ذَكَرَ مِنَ التَّرْغِيبِ المُتَضَمِّنِ التَّرْهِيبَ. ومَعْنى ﴿ألا تَجُوعَ فِيها..﴾ إلَخِ: أنْ لا يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنَ الأُمُورِ الأرْبَعَةِ أصْلًا، فَإنَّ الشِّبَعَ والرِّيَّ والكُسْوَةَ والَكِنَّ قَدْ تَحْصُلُ بَعْدَ عُرُوضِ أضْدادِها بِإعْوازِ الطَّعامِ والشَّرابِ واللِّباسِ والمَسْكَنِ، ولَيْسَ الأمْرُ فِيها كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ ما وقَعَ فِيها شَهْوَةٌ ومَيْلٌ إلى شَيْءٍ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ تَمَتَّعَ بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَصِلَ إلى حَدِّ الضَّرُورَةِ. ووَجْهُ إفْرادِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما ذَكَرَ ما مَرَّ آَنِفًا، وفَصَلَ الظَّمَأ عَنِ الجُوعِ في الذِّكْرِ مَعَ تَجانُسِهِما وتَقارُنِهِما في الذِّكْرِ عادَةً، وكَذا حالُ العُرْيِ والضَّحْوِ المُتَجانِسَيْنِ لِتَوْفِيَةِ مَقامِ الِامْتِنانِ حَقَّهُ بِالإشارَةِ إلى أنَّ نَفْيَ كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأُمُورِ نِعْمَةٌ عَلى حِيالِها، ولَوْ جُمِعَ بَيْنَ الجُوعِ والظَّمَإ لَرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ نَفْيَهُما نِعْمَةٌ واحِدَةٌ. وكَذا الحالُ في الجَمْعِ بَيْنَ العُرْيِ والضَّحْوِ عَلى مِنهاجِ قِصَّةِ البَقَرَةِ، ولِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ بِالتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ نَفْيَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ مَقْصُودَةٌ بِالذّاتِ مَذْكُورٌ بِالأصالَةِ، لا أنَّ نَفْيَ بَعْضِها مَذْكُورٌ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرادِ والتَّبَعِيَّةِ لِنَفِيَ بَعْضٍ آَخَرَ، كَما عَسى يُتَوَهَّمُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ المُتَجانِسِينَ. وقُرِئَ: "إنَّكَ" بِالكَسْرِ، والجُمْهُورُ عَلى الفَتْحِ بِالعَطْفِ عَلى أنْ لا تَجُوعَ. وصِحَّةُ وُقُوعِ الجُمْلَةِ بِأنَّ المَفْتُوحَةَ اسْمًا لِلْمَكْسُورَةِ المُشارِكَةِ لَها في إفادَةِ التَّحْقِيقِ مَعَ امْتِناعِ وُقُوعِها خَبَرًا لَها لِما أنَّ المَحْذُورَ اجْتِماعُ حَرْفَيِ التَّحْقِيقِ في مادَّةٍ واحِدَةٍ، لا اجْتِماعَ فِيما نَحْنُ فِيهِ لِاخْتِلافِ مَناطِ التَّحْقِيقِ فِيما في حَيِّزِهِما، بِخِلافِ ما لَوْ وقَعَتْ خَبَرًا لَها فَإنَّ اتِّحادَ المُناطِ حِينَئِذٍ مِمّا لا رَيْبَ فِيهِ بَيانُهُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المَكْسُورَةِ والمَفْتُوحَةِ مَوْضُوعَةٌ لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ المُنْعَقِدَةِ مِنِ اسْمِها وخَبَرِها. ولا يَخْفى أنَّ مَرْجِعَ خَبَرِيَّتِها ما فِيها مِنَ الحُكْمِ الإيجابِيِّ أوِ السَّلْبِيِّ وأنَّ مَناطَ ذَلِكَ الحُكْمِ خَبَرُها لا اسْمُها، فَمَدْلُولُ كُلٍّ مِنهُما تَحْقِيقُ ثُبُوتِ خَبَرِها لِاسْمِها لا ثُبُوتِ اسْمِها في نَفْسِها، فاللّازِمُ مِن وُقُوعِ الجُمْلَةِ المُصَدِّرَةِ بِالمَفْتُوحَةِ اسْمًا لِلْمَكْسُورَةِ تَحْقِيقُ ثُبُوتِ خَبَرِها لِتِلْكَ الجُمْلَةِ المُؤَوَّلَةِ بِالمَصْدَرِ، وأمّا تَحْقِيقُ ثُبُوتِها في نَفْسِها فَهو مَدْلُولُ المَفْتُوحَةِ حَتْمًا، فَلَمْ يَلْزَمِ اجْتِماعُ حَرْفَيِ التَّحْقِيقِ في مادَّةٍ واحِدَةٍ قَطْعًا، وإنَّما لَمْ يُجَوِّزُوا أنْ يُقالَ: إنَّ أنَّ زَيْدًا قائِمٌ حَقٌّ مَعَ اخْتِلافِ المَناطِ، بَلْ شَرَطُوا الفَصْلَ بِالخَبَرِ كَقَوْلِنا: إنَّ عِنْدِي أنَّ زَيْدًا قائِمٌ لِلتَّجافِي عَنْ صُورَةِ الِاجْتِماعِ، والواوُ العاطِفَةُ وإنْ كانَتْ نائِبَةً عَنِ المَكْسُورَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ دُخُولُها عَلى المَفْتُوحَةِ بِلا فَصْلٍ وقائِمَةً مَقامَها في إفْضاءِ مَعْناها وإجْراءِ أحْكامِها عَلى مَدْخُولِها، لَكِنَّها حَيْثُ لَمْ تَكُنْ حَرْفًا مَوْضُوعًا لِلتَّحْقِيقِ لَمْ يَلْزَمْ مِن دُخُولِها عَلى المَفْتُوحَةِ اجْتِماعُ حَرْفَيِ التَّحْقِيقِ أصْلًا، فالمَعْنى: إنَّ لَكَ عَدَمَ الجُوعِ وعَدَمَ العُرْيِ وعَدَمَ الظَّمَإ، خَلا أنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى بَيانِ أنَّ الثّابِتَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَدَمَ الظَّمَإ والضَّحْوِ مُطْلَقًا كَما فُعِلَ مِثْلُهُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ قُصِدَ بَيانُ أنَّ الثّابِتَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحْقِيقُ عَدَمِها فَوُضِعَ مَوْضِعَ الحَرْفِ المَصْدَرِيِّ (p-47)المُحَصَّنِ "أنَّ" المُفِيدَةِ لَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ لَكَ فِيها عَدَمَ ظَمَئِكَ عَلى التَّحْقِيقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب