قُلْ: كَرَّرَ الأمْرَ مَعَ قُرْبِ العَهْدِ بِالأمْرِ السّابِقِ؛ لِما أنَّهُ أمْرٌ بِتَبْكِيتِهِمْ؛ وإظْهارِ كَذِبِهِمْ؛ في فَنٍّ آخَرَ مِن أباطِيلِهِمْ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُحْكَ عَنْهم قَبْلَ الأمْرِ بِإبْطالِهِ؛ بَلِ اكْتُفِيَ بِالإشارَةِ إلَيْهِ في تَضاعِيفِ الكَلامِ؛ حَيْثُ قِيلَ: ﴿إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ﴾؛ أيْ: الجَنَّةُ؛ أوْ نَعِيمُ الدّارِ (p-132)الآخِرَةِ؛ ﴿عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً﴾؛ أيْ: سالِمَةً لَكُمْ؛ خاصَّةً بِكُمْ؛ كَما تَدَّعُونَ أنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى؛ ونَصْبُها عَلى الحالِيَّةِ مِن "الدّارُ"؛ و"عِنْدَ": ظَرْفٌ لِلِاسْتِقْرارِ في الخَبَرِ؛ أعْنِي: "لَكُمْ"؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مِن دُونِ النّاسِ﴾: في مَحَلِّ النَّصْبِ؛ بِـ "خالِصَةً"؛ يُقالُ: "خَلَصَ لِي كَذا مِن كَذا"؛ واللّامُ لِلْجِنْسِ؛ أيْ: النّاسِ كافَّةً؛ أوْ لِلْعَهْدِ؛ أيْ: المُسْلِمِينَ؛ ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ﴾؛ فَإنَّ مَن أيْقَنَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ اشْتاقَ إلى التَّخَلُّصِ إلَيْها مِن دارِ البَوارِ؛ وقَرارَةِ الأكْدارِ؛ لا سِيَّما إذا كانَتْ خالِصَةً لَهُ؛ كَما قالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ -: "لا أُبالِي أسْقَطْتُ عَلى المَوْتِ؛ أوْ سَقَطَ المَوْتُ عَلَيَّ"؛ وقالَ عَمّارُ بْنُ ياسِرٍ بِصِفِّينَ: "الآنَ أُلاقِي الأحِبَّةَ؛ مُحَمَّدًا وحِزْبَهُ"؛ وقالَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ - حِينَ احْتُضِرَ؛ وقَدْ كانَ يَتَمَنّى المَوْتَ قَبْلُ -:
؎ جاءَ حَبِيبٌ عَلى فاقَةٍ ∗∗∗ فَلا أفْلَحَ اليَوْمَ مَن قَدْ نَدِمْ
؛ أيْ: عَلى التَّمَنِّي؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾: تَكْرِيرٌ لِلْكَلامِ؛ لِتَشْدِيدِ الإلْزامِ؛ ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ تَرَتُّبَ الجَوابَ لَيْسَ عَلى تَحَقُّقِ الشَّرْطِ في نَفْسِ الأمْرِ فَقَطْ؛ بَلْ في اعْتِقادِهِمْ أيْضًا؛ وأنَّهم قَدِ ادَّعَوْا ذَلِكَ؛ والجَوابُ مَحْذُوفٌ؛ ثِقَةً بِدَلالَةٍ ما سَبَقَ عَلَيْهِ؛ أيْ: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَتَمَنَّوْهُ؛ .
{"ayah":"قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا۟ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"}