الباحث القرآني

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾: اسْتِئْنافٌ تَعْلِيلِيٌّ لِما سَبَقَ مِنَ الحُكْمِ؛ وبَيانٌ لِما يَقْتَضِيهِ؛ أوْ بَيانٌ وتَأْكِيدٌ لَهُ؛ والمُرادُ بِالقَلْبِ مَحَلُّ القُوَّةِ العاقِلَةِ مِنَ الفُؤادِ؛ والخَتْمُ عَلى الشَّيْءِ الِاسْتِيثاقُ مِنهُ؛ بِضَرْبِ الخاتَمِ عَلَيْهِ؛ صِيانَةً لَهُ؛ أوْ لِما فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ؛ كَما في البَيْتِ الفارِغِ؛ والكِيسِ المَمْلُوءِ؛ والأوَّلُ هو الأنْسَبُ بِالمَقامِ؛ إذْ لَيْسَ المُرادُ بِهِ صِيانَةَ ما في قُلُوبِهِمْ؛ بَلْ إحْداثَ حالَةٍ تَجْعَلُها - بِسَبَبِ تَمادِيهِمْ في الغَيِّ؛ وانْهِماكِهِمْ في التَّقْلِيدِ؛ وإعْراضِهِمْ عَنْ مِنهاجِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ؛ بِحَيْثُ لا يُؤَثِّرُ فِيها الإنْذارُ؛ ولا يَنْفُذُ فِيها الحَقُّ أصْلًا - إمّا عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ؛ بِأنْ يُشَبِّهَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الخاتَمِ؛ عَلى نَحْوِ أبْوابِ المَنازِلِ الخالِيَةِ المَبْنِيَّةِ لِلسُّكْنى؛ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ؛ بِجامِعٍ عَقْلِيٍّ؛ هو الِاشْتِمالُ عَلى مَنعِ القابِلِ عَمّا مِن شَأْنِهِ وحَقِّهِ أنْ يَقْبَلَهُ؛ ويُسْتَعارَ لَهُ الخَتْمُ؛ ثُمَّ يُشْتَقَّ مِنهُ صِيغَةُ الماضِي؛ وإمّا عَلى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِأنْ يُشَبِّهَ الهَيْئَةَ المُنْتَزَعَةَ مِن قُلُوبِهِمْ؛ وقَدْ فُعِلَ بِها ما فُعِلَ مِن إحْداثِ تِلْكَ الحالَةِ المانِعَةِ مِن أنْ يَصِلَ إلَيْها ما خُلِقَتْ هي لِأجْلِهِ مِنَ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ النّافِعَةِ؛ وحِيلَ بَيْنَها وبَيْنَهُ بِالمَرَّةِ؛ بِهَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِن مُحالٍ؛ مُعَدَّةٍ لِحُلُولِ ما يَحُلُّها حُلُولًا مُسْتَتْبِعًا لِمَصالِحَ مُهِمَّةٍ؛ وقَدْ مَنَعَ مِن ذَلِكَ بِالخَتْمِ عَلَيْها؛ وحِيلَ بَيْنَها وبَيْنَ ما أُعِدَّتْ لِأجْلِهِ بِالكُلِّيَّةِ؛ ثُمَّ يُسْتَعارَ لَها ما يَدُلُّ عَلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها؛ فَيَكُونَ كُلٌّ مِن طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ مُرَكَّبًا مِن أُمُورٍ عِدَّةٍ؛ قَدِ اقْتُصِرَ مِن جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ عَلى ما عَلَيْهِ يَدُورُ الأمْرُ في تَصْوِيرِ تِلْكَ الهَيْئَةِ وانْتِزاعِها؛ وهو الخَتْمُ؛ والباقِي مَنَوِيٌّ؛ مُرادٌ قَصْدًا بِألْفاظٍ مُتَخَيَّلَةٍ؛ بِها يَتَحَقَّقُ التَّرْكِيبُ؛ وتِلْكَ الألْفاظُ - وإنْ كانَ لَها مُدْخَلٌ في تَحْقِيقِ وجْهِ الشَّبَهِ الَّذِي هو أمْرٌ عَقْلِيٌّ مُنْتَزَعٌ مِنها؛ وهو امْتِناعُ الِانْتِفاعِ بِما أُعِدَّ لَهُ بِسَبَبٍ مانِعٍ قَوِيٍّ - لَكِنْ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنها عَلى الِانْفِرادِ تَجَوُّزٌ؛ بِاعْتِبارِ هَذا المَجازِ؛ بَلْ هي باقِيَةٌ عَلى حالِها مِن كَوْنِها حَقِيقَةً؛ أوْ مَجازًا؛ أوْ كِنايَةً؛ وإنَّما التَّجَوُّزُ في المَجْمُوعِ؛ وحَيْثُ كانَ مَعْنى المَجْمُوعِ مَجْمُوعَ مَعانِي تِلْكَ الألْفاظِ الَّتِي لَيْسَ فِيها التَّجَوُّزُ المَعْهُودُ؛ ولَمْ تَكُنِ الهَيْئَةُ المُنْتَزَعَةُ مِنها مَدْلُولًا وضْعِيًّا لَها؛ لِيَكُونَ ما دَلَّ عَلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها عِنْدَ اسْتِعْمالِهِ في الهَيْئَةِ المُشَبَّهَةِ؛ مُسْتَعْمَلًا في غَيْرِ ما وُضِعَ لَهُ؛ فَيَنْدَرِجَ تَحْتَ الِاسْتِعارَةِ؛ الَّتِي هي قِسْمٌ مِنَ المَجازِ اللُّغَوِيِّ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ الكَلِمَةِ المُسْتَعْمَلَةِ في غَيْرِ ما وُضِعَ لَهُ؛ ذَهَبَ قُدَماءُ المُحَقِّقِينَ؛ كالشَّيْخِ عَبْدِ القاهِرِ؛ وأضْرابِهِ إلى جَعْلِ التَّمْثِيلِ قِسْمًا بِرَأْسِهِ؛ ومَن رامَ تَقْلِيلَ الأقْسامِ عَدَّ تِلْكَ الهَيْئَةَ المُشَبَّهَ بِها مِن قَبِيلِ المَدْلُولاتِ الوَضْعِيَّةِ؛ وجَعَلَ الكَلامَ المُفِيدَ لَها؛ عِنْدَ اسْتِعْمالِهِ فِيما يُشَبَّهُ بِها مِن هَيْئَةٍ أُخْرى مُنْتَزَعَةٍ مِن أُمُورٍ أُخَرَ مِن قَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ؛ وسَمّاهُ اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً؛ وإسْنادُ إحْداثِ تِلْكَ الحالَةِ في قُلُوبِهِمْ إلى اللَّهِ (تَعالى) لِاسْتِنادِ جَمِيعِ الحَوادِثِ عِنْدَنا مِن حَيْثُ الخَلْقُ إلَيْهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى -؛ ووُرُودُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ناعِيَةً عَلَيْهِمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ؛ ووَخامَةَ عاقِبَتِهِمْ؛ لِكَوْنِ أفْعالِهِمْ مِن حَيْثُ الكَسْبُ مُسْتَنِدَةً إلَيْهِمْ؛ فَإنَّ خَلْقَها مِنهُ - سُبْحانَهُ - لَيْسَ بِطَرِيقِ الجَبْرِ؛ بَلْ بِطَرِيقِ التَّرْتِيبِ عَلى ما اقْتَرَفُوهُ مِنَ القَبائِحِ؛ كَما يُعْرِبُ عَنْهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾؛ ونَحْوُ ذَلِكَ؛ وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ؛ وذَكَرُوا في ذَلِكَ عِدَّةً مِنَ الأقاوِيلِ؛ مِنها أنَّ القَوْمَ لَمّا أعْرَضُوا عَنِ الحَقِّ؛ وتَمَكَّنَ ذَلِكَ في قُلُوبِهِمْ؛ حَتّى صارَ كالطَّبِيعَةِ لَهُمْ؛ شُبِّهَ بِالوَصْفِ الخَلْقِيِّ المَجْبُولِ عَلَيْهِ؛ ومِنها أنَّ المُرادَ بِهِ تَمْثِيلُ قُلُوبِهِمْ بِقُلُوبِ البَهائِمِ الَّتِي خَلَقَها (p-38)اللَّهُ (تَعالى) خالِيَةً عَنِ الفَطْنِ؛ أوْ بِقُلُوبٍ قُدِّرَ خَتْمُ اللَّهِ (تَعالى) عَلَيْها؛ كَما فِي: "سالَ بِهِ الوادِي"؛ إذا هَلَكَ؛ و"طارَتْ بِهِ العَنْقاءُ"؛ إذا طالَتْ غَيْبَتُهُ؛ ومِنها أنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الشَّيْطانِ؛ أوِ الكافِرِ؛ وإسْنادُهُ إلَيْهِ (تَعالى) بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ بِإقْدارِهِ (تَعالى)؛ وتَمْكِينِهِ؛ ومِنها أنَّ أعْراقَهم لَمّا رَسَخَتْ في الكُفْرِ؛ واسْتَحْكَمَتْ - بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ إلى تَحْصِيلِ إيمانِهِمْ طَرِيقٌ سِوى الإلْجاءِ والقَسْرِ؛ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مُحافَظَةً عَلى حِكْمَةِ التَّكْلِيفِ - عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالخَتْمِ؛ لِأنَّهُ سَدٌّ لِطَرِيقِ إيمانِهِمْ بِالكُلِّيَّةِ؛ وفِيهِ إشْعارٌ بِتَرامِي أمْرِهِمْ في الغَيِّ والعِنادِ؛ وتَناهِي انْهِماكِهِمْ في الشَّرِّ والفَسادِ؛ ومِنها أنَّ ذَلِكَ حِكايَةٌ لِما كانَتِ الكَفَرَةُ يَقُولُونَهُ؛ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾؛ تَهَكُّمًا بِهِمْ؛ ومِنها أنَّ ذَلِكَ في الآخِرَةِ؛ وإنَّما أُخْبِرَ عَنْهُ بِالماضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ؛ ويُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَنَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا﴾؛ ومِنها أنَّ المُرادَ بِالخَتْمِ وسْمُ قُلُوبِهِمْ بِسِمَةٍ يَعْرِفُها المَلائِكَةُ؛ فَيُبْغِضُونَهُمْ؛ ويَتَنَفَّرُونَ عَنْهم. ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾: عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ؛ داخِلٌ في حُكْمِ الخَتْمِ؛ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ﴾؛ ولِلْوِفاقِ عَلى الوَقْفِ عَلَيْهِ؛ لا عَلى "قُلُوبِهِمْ"؛ ولِاشْتِراكِهِما في الإدْراكِ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ؛ وإعادَةُ الجارِّ لِلتَّأْكِيدِ؛ والإشْعارِ بِتَغايُرِ الخَتْمَيْنِ؛ وتَقْدِيمُ خَتْمِ قُلُوبِهِمْ لِلْإيذانِ بِأنَّها الأصْلُ في عَدَمِ الإيمانِ؛ ولِلْإشْعارِ بِأنَّ خَتْمَها لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؛ بِخَتْمِ سَمْعِهِمْ؛ بِناءً عَلى أنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْها؛ فالخَتْمُ عَلَيْهِ خَتْمٌ عَلَيْها؛ بَلْ هي مَخْتُومَةٌ بِخَتْمٍ عَلى حِدَةٍ؛ لَوْ فُرِضَ عَدَمُ الخَتْمِ عَلى سَمْعِهِمْ؛ فَهو باقٍ عَلى حالِهِ؛ حَسْبَما يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهم ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾؛ والسَّمْعُ: إدْراكُ القُوَّةِ السّامِعَةِ؛ وقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْها وعَلى العُضْوِ الحامِلِ لَها؛ وهو المُرادُ هَهُنا؛ إذْ هو المَخْتُومُ عَلَيْهِ أصالَةً؛ وتَقْدِيمُ حالِهِ عَلى حالِ أبْصارِهِمْ لِلِاشْتِراكِ بَيْنَهُ وبَيْنَ قُلُوبِهِمْ في تِلْكَ الحالِ؛ أوْ لِأنَّ جِنايَتَهم مِن حَيْثُ السَّمْعُ الَّذِي بِهِ يُتَلَقّى الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ؛ وبِهِ يَتَحَقَّقُ الإنْذارُ أعْظَمَ مِنها؛ مِن حَيْثُ البَصَرُ الَّذِي بِهِ يُشاهَدُ الأحْوالُ الدّالَّةُ عَلى التَّوْحِيدِ؛ فَبَيانُها أحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ؛ وأنْسَبُ بِالمَقامِ؛ قالُوا: السَّمْعُ أفْضَلُ مِنَ البَصَرِ؛ لِأنَّهُ - عَزَّ وعَلا - حَيْثُ ذَكَرَهُما قَدَّمَ السَّمْعَ عَلى البَصَرِ؛ ولِأنَّ السَّمْعَ شَرْطُ النُّبُوَّةِ؛ ولِذَلِكَ ما بَعَثَ اللَّهُ (تَعالى) رَسُولًا أصَمَّ؛ ولِأنَّ السَّمْعَ وسِيلَةٌ إلى اسْتِكْمالِ العَقْلِ بِالمَعارِفِ الَّتِي تُتَلَقَّفُ مِن أصْحابِها؛ وتَوْحِيدُهُ لِلْأمْنِ عَنِ اللَّبْسِ؛ واعْتِبارِ الأصْلِ؛ أوْ لِتَقْدِيرِ المُضافِ؛ أيْ: وعَلى حَواسِّ سَمْعِهِمْ؛ والكَلامُ في إيقاعِ الخَتْمِ عَلى ذَلِكَ كَما مَرَّ مِن قَبْلُ. ﴿وَعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾: الأبْصارُ جَمْعُ "بَصَرٌ"؛ والكَلامُ فِيهِ كَما سَمِعْتَهُ في السَّمْعِ؛ والغِشاوَةُ: "فِعالَةٌ" مِنَ التَّغْشِيَةِ؛ أيِ التَّغْطِيَةِ؛ بُنِيَتْ لِما يَشْتَمِلُ عَلى الشَّيْءِ؛ كَـ "العِصابَةُ"؛ و"العِمامَةُ"؛ وتَنْكِيرُها لِلتَّفْخِيمِ والتَّهْوِيلِ؛ وهي عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ مُبْتَدَأٌ؛ خَبَرُهُ الظَّرْفُ المُقَدَّمُ؛ والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها؛ وإيثارُ الِاسْمِيَّةِ لِلْإيذانِ بِدَوامِ مَضْمُونِها؛ فَإنَّ ما يُدْرَكُ بِالقُوَّةِ الباصِرَةِ مِنَ الآياتِ المَنصُوبَةِ في الآفاقِ والأنْفُسِ؛ حَيْثُ كانَتْ مُسْتَمِرَّةً؛ كانَ تَعامُّهم مِن ذَلِكَ أيْضًا كَذَلِكَ؛ وأمّا الآياتُ الَّتِي تُتَلَقّى بِالقُوَّةِ السّامِعَةِ - فَلَمّا كانَ وُصُولُها إلَيْها حِينًا فَحِينًا - أُوثِرَ في بَيانِ الخَتْمِ عَلَيْها وعَلى ما هي أحَدُ طَرِيقَيْ مَعْرِفَتِهِ - أعْنِي القَلْبَ - الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ؛ وعَلى رَأْيِ الأخْفَشِ مُرْتَفِعٌ عَلى الفاعِلِيَّةِ؛ مِمّا تَعَلَّقَ بِهِ الجارُّ؛ وقُرِئَ بِالنَّصْبِ؛ عَلى تَقْدِيرِ فِعْلٍ ناصِبٍ؛ أيْ: وجَعَلَ عَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةً؛ وقِيلَ: عَلى حَذْفِ الجارِّ؛ وإيصالِ الخَتْمِ إلَيْهِ؛ والمَعْنى: وخُتِمَ عَلى أبْصارِهِمْ بِغِشاوَةٍ؛ وقُرِئَ بِالضَّمِّ؛ والرَّفْعِ؛ وبِالفَتْحِ؛ والنَّصْبِ؛ وهُما لُغَتانِ فِيها؛ و"غِشْوَةٌ" بِالكَسْرِ مَرْفُوعَةً؛ وبِالفَتْحِ مَرْفُوعَةً؛ ومَنصُوبَةً؛ و"عَشاوَةٌ" بِالعَيْنِ غَيْرِ المُعْجَمَةِ؛ والرَّفْعِ. ﴿وَلَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾؛ وعِيدٌ وبَيانٌ لِما يَسْتَحِقُّونَهُ (p-39) فِي الآخِرَةِ؛ و"العَذابُ" كَـ "النَّكالُ"؛ بِناءً ومَعْنًى؛ يُقالُ: أعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ؛ إذا أمْسَكَ عَنْهُ؛ ومِنهُ: الماءُ العَذْبُ؛ لِما أنَّهُ يَقْمَعُ العَطَشَ ويَرْدَعُهُ؛ ولِذَلِكَ يُسَمّى نُقاخًا؛ لِأنَّهُ يَنْقَخُ العَطَشَ ويَكْسِرُهُ؛ وفُراتًا؛ لِأنَّهُ يَفْرُتُهُ عَلى القَلْبِ ويَكْسِرُهُ؛ ثُمَّ اتُسِعَ فِيهِ؛ فَأُطْلِقَ عَلى كُلِّ ألَمٍ فادِحٍ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ عِقابًا يُرادُ بِهِ رَدْعُ الجانِي عَنِ المُعاوَدَةِ؛ وقِيلَ: اشْتِقاقُهُ مِنَ التَّعْذِيبِ؛ الَّذِي هو إزالَةُ العَذابِ؛ كَـ "التَّقْذِيَةُ"؛ و"التَّمْرِيضُ"؛ و"العَظِيمُ" نَقِيضُ "الحَقِيرُ"؛ و"الكَبِيرُ" نَقِيضُ "الصَّغِيرُ"؛ فَمِن ضَرُورَةِ كَوْنِ الحَقِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ كَوْنُ العَظِيمِ فَوْقَ الكَبِيرِ؛ ويُسْتَعْمَلانِ في الجُثَثِ؛ والأحْداثِ؛ تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ؛ وكَبِيرٌ؛ تُرِيدُ جُثَّتَهُ؛ أوْ خَطَرَهُ؛ ووُصِفَ العَذابُ بِهِ لِتَأْكِيدِ ما يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مِنَ التَّفْخِيمِ والتَّهْوِيلِ والمُبالَغَةِ في ذَلِكَ؛ والمَعْنى أنَّ عَلى أبْصارِهِمْ ضَرْبًا مِنَ الغِشاوَةِ؛ خارِجًا مِمّا يُتَعارَفُهُ النّاسُ؛ وهي غِشاوَةُ التَّعامِي عَنِ الآياتِ؛ ولَهم مِنَ الآلامِ العِظامِ نَوْعٌ عَظِيمٌ لا يُبْلَغُ كُنْهُهُ؛ ولا يُدْرَكُ غايَتُهُ. اللَّهُمَّ إنّا نَعُوذُ بِكَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ يا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب