الباحث القرآني
وَقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿أُولَئِكَ﴾؛ إشارَةٌ إلى الَّذِينَ حُكِيَتْ خِصالُهُمُ الحَمِيدَةُ مِن حَيْثُ اتِّصافُهم بِها؛ وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهم مُتَمَيِّزُونَ بِذَلِكَ أكْمَلَ تَمَيُّزٍ؛ مُنْتَظِمُونَ بِسَبَبِهِ في سِلْكِ الأُمُورِ المُشاهَدَةِ؛ وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإشْعارِ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ؛ وبُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الفَضْلِ؛ وهو مُبْتَدَأٌ؛ وقَوْلُهُ - عَزَّ وعَلا -: ﴿عَلى هُدًى﴾؛ خَبَرُهُ؛ وما فِيهِ مِنَ الإبْهامِ المَفْهُومِ مِنَ التَّنْكِيرِ لِكَمالِ تَفْخِيمِهِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: عَلى أيِّ هُدًى؛ هُدًى لا يُبْلَغُ كُنْهُهُ؛ ولا يُقادَرُ قَدْرُهُ؛ وإيرادُ كَلِمَةِ الِاسْتِعْلاءِ بِناءً عَلى تَمْثِيلِ حالِهِمْ في مُلابَسَتِهِمْ بِالهُدى بِحالِ مَن يَعْتَلِي الشَّيْءَ ويَسْتَوْلِي عَلَيْهِ؛ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَما يُرِيدُ؛ أوْ عَلى اسْتِعارَتِها لِتَمَسُّكِهِمْ بِالهُدى؛ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً مُتَفَرِّعَةً عَلى تَشْبِيهِهِ بِاعْتِلاءِ الرّاكِبِ واسْتِوائِهِ عَلى مَرْكُوبِهِ؛ أوْ عَلى جَعْلِها قَرِينَةً لِلِاسْتِعارَةِ بِالكِنايَةِ بَيْنَ الهُدى والمَرْكُوبِ؛ لِلْإيذانِ بِقُوَّةِ تَمَكُّنِهِمْ مِنهُ؛ وكَمالِ رُسُوخِهِمْ فِيهِ. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مِن رَبِّهِمْ﴾؛ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَهُ؛ مُبَيِّنَةً لِفَخامَتِهِ الإضافِيَّةِ؛ إثْرَ بَيانِ فَخامَتِهِ الذّاتِيَّةِ؛ (p-34)مُؤَكِّدَةً لَها؛ أيْ: عَلى هُدًى كائِنٍ مِن عِنْدِهِ (تَعالى)؛ وهو شامِلٌ لِجَمِيعِ أنْواعِ هِدايَتِهِ (تَعالى)؛ وفُنُونِ تَوْفِيقِهِ. والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الربوبية مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِمْ لِغايَةِ تَفْخِيمِ المَوْصُوفِ؛ والمُضافِ إلَيْهِمْ؛ وتَشْرِيفِهِما؛ ولِزِيادَةِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ؛ وتَقْرِيرِهِ بِبَيانِ ما يُوجِبُهُ ويَقْتَضِيهِ؛ وقَدْ أُدْغِمَتِ النُّونُ في الرّاءِ؛ بِغُنَّةٍ أوْ بِغَيْرِ غُنَّةٍ؛ والجُمْلَةُ - عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المَوْصُولَيْنِ مَوْصُولَيْنِ بِـ "المُتَّقِينَ" - مُسْتَقِلَّةٌ؛ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ مَعَ زِيادَةِ تَأْكِيدٍ لَهُ وتَحْقِيقٍ؛ كَيْفَ لا.. وكَوْنُ الكِتابِ هُدًى لَهم فَنٌّ مِن فُنُونِ ما مُنِحُوهُ واسْتَقَرُّوا عَلَيْهِ مِنَ الهُدى؛ حَسْبَما تَحَقَّقْتَهُ؛ لا سِيَّما مَعَ مُلاحَظَةِ ما يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ الفَوْزِ والفَلاحِ؟ وقِيلَ: هي واقِعَةٌ مَوْقِعَ الجَوابِ عَنْ سُؤالٍ؛ رُبَّما يَنْشَأُ مِمّا سَبَقَ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: ما لِلْمَنعُوتِينَ بِما ذُكِرَ مِنَ النُّعُوتِ اخْتُصُّوا بِهِدايَةِ ذَلِكَ الكِتابِ العَظِيمِ الشَّأْنِ؟ وهَلْ هم أحِقّاءُ بِتِلْكَ الأثَرَةِ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّهُمْ؛ بِسَبَبِ اتِّصافِهِمْ بِذَلِكَ؛ مالِكُونَ لِزِمامِ أصْلِ الهُدى؛ الجامِعِ لِفُنُونِهِ؛ المُسْتَتْبِعِ لِلْفَوْزِ والفَلاحِ؛ فَأيُّ رَيْبٍ في اسْتِحْقاقِهِمْ لِما هو فَرْعٌ مِن فُرُوعِهِ؟ ولَقَدْ جارَ عَنْ سَنَنِ الصَّوابِ مَن قالَ في تَقْرِيرِ الجَوابِ: إنَّ أُولَئِكَ المَوْصُوفِينَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أنْ يَفُوزُوا دُونَ النّاسِ بِالهُدى عاجِلًا؛ وبِالفَلاحِ آجِلًا. وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِما مَفْصُولَيْنِ عَنْهُ فَهي في مَحَلِّ الرَّفْعِ؛ عَلى أنَّها خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَإ الَّذِي هو المَوْصُولُ الأوَّلُ؛ والثّانِي مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ؛ وهَذِهِ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا عَنْ سُؤالٍ يَنْساقُ إلَيْهِ الذِّهْنُ مِن تَخْصِيصِ ما ذُكِرَ بِالمُتَّقِينَ قَبْلَ بَيانِ مَبادِي اسْتِحْقاقِهِمْ لِذَلِكَ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: ما بالُ المُتَّقِينَ مَخْصُوصِينَ بِهِ؟ فَأُجِيبَ بِشَرْحِ ما انْطَوى عَلَيْهِ اسْمُهم إجْمالًا مِن نُعُوتِ الكَمالِ؛ وبَيانِ ما يَسْتَدْعِيهِ مِنَ النَّتِيجَةِ؛ أيْ: الَّذِينَ هَذِهِ شُئُونُهم أحِقّاءُ بِما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ؛ كَقَوْلِكَ: أُحِبُّ الأنْصارَ الَّذِينَ قارَعُوا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَذَلُوا مُهْجَتَهم في سَبِيلِ اللَّهِ؛ أُولَئِكَ سَوادُ عَيْنَيَّ؛ وسُوَيْداءُ قَلْبِي. واعْلَمْ أنَّ هَذا المَسْلَكَ يُسْلَكُ تارَةً بِإعادَةِ اسْمِ مَنِ اسْتُؤْنِفَ عَنْهُ الحَدِيثُ؛ كَقَوْلِكَ: "أحْسَنْتُ إلى زَيْدٍ؛ زَيْدٌ حَقِيقٌ بِالإحْسانِ"؛ وأُخْرى بِإعادَةِ صِفَتِهِ؛ كَقَوْلِكَ: "أحْسَنْتُ إلى زَيْدٍ؛ صَدِيقُكَ القَدِيمُ أهْلٌ لِذَلِكَ"؛ ولا رَيْبَ في أنَّ هَذا أبْلَغُ مِنَ الأوَّلِ؛ لِما فِيهِ مِن بَيانِ المُوجِبِ لِلْحُكْمِ؛ وإيرادُ اسْمِ الإشارَةِ بِمَنزِلَةِ إعادَةِ المَوْصُوفِ بِصِفاتِهِ المَذْكُورَةِ؛ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإشْعارِ بِكَمالِ تَمَيُّزِهِ بِها؛ وانْتِظامِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ في سِلْكِ الأُمُورِ المُشاهَدَةِ؛ والإيماءِ إلى بُعْدِ مَنزِلَتِهِ؛ كَما مَرَّ؛ هَذا.. وقَدْ جُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ الأوَّلُ مُجْرًى عَلى "المُتَّقِينَ"؛ حَسْبَما فُصِّلَ؛ والثّانِي مُبْتَدَأٌ؛ و"أُولَئِكَ"؛ إلَخْ.. خَبَرُهُ؛ ويُجْعَلُ اخْتِصاصُهم بِالهُدى والفَلاحِ تَعْرِيضًا بِغَيْرِ المُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ؛ حَيْثُ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهم عَلى الهُدى؛ ويَطْمَعُونَ في نَيْلِ الفَلاحِ.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾: تَكْرِيرُ اسْمِ الإشارَةِ لِإظْهارِ مَزِيدِ العِنايَةِ بِشَأْنِ المُشارِ إلَيْهِمْ؛ ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ اتِّصافَهم بِتِلْكَ الصِّفاتِ يَقْتَضِي نَيْلَ كُلِّ واحِدَةٍ مِن تَيْنِكَ الأثَرَتَيْنِ؛ وأنَّ كُلًّا مِنهُما كافٍ في تَمْيِيزِهِمْ بِها عَمَّنْ عَداهُمْ؛ ويُؤَيِّدُهُ تَوْسِيطُ العاطِفِ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ؛ بِخِلافِ ما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ أُولَئِكَ هم الغافِلُونَ﴾؛ فَإنَّ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِمْ بِكَمالِ الغَفْلَةِ عِبارَةٌ عَمّا يُفِيدُهُ تَشْبِيهُهم بِالبَهائِمِ؛ فَتَكُونُ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ مُقَرِّرَةً لِلْأُولى؛ وأمّا الإفْلاحُ؛ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ الفَوْزِ بِالمَطْلُوبِ؛ فَلَمّا كانَ مُغايِرًا لِلْهُدى؛ نَتِيجَةً لَهُ؛ وكانَ كُلٌّ مِنهُما في نَفْسِهِ أعَزَّ مَرامٍ؛ يَتَنافَسُ فِيهِ المُتَنافِسُونَ؛ فَعَلَ ما فَعَلَ؛ و"هُمْ" ضَمِيرُ فَصْلٍ؛ يَفْصِلُ الخَبَرَ عَنِ الصِّفَةِ؛ ويُؤَكِّدُ النِّسْبَةَ؛ ويُفِيدُ اخْتِصاصَ المُسْنَدِ بِالمُسْنَدِ إلَيْهِ؛ أوْ مُبْتَدَأٌ؛ خَبَرُهُ "المُفْلِحُونَ"؛ والجُمْلَةُ خَبَرٌ لِـ "أُولَئِكَ"؛ وتَعْرِيفُ المُفْلِحِينَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ المُتَّقِينَ هُمُ النّاسُ الَّذِينَ بَلَغَكَ أنَّهُمُ المُفْلِحُونَ في الآخِرَةِ؛ أوْ إشارَةٌ إلى ما يَعْرِفُهُ كُلُّ أحَدٍ مِن (p-35)
حَقِيقَةِ المُفْلِحِينَ؛ وخَصائِصِهِمْ. هَذا.. وفي بَيانِ اخْتِصاصِ المُتَّقِينَ بِنَيْلِ هَذِهِ المَراتِبِ الفائِقَةِ عَلى فُنُونٍ مِنَ الِاعْتِباراتِ الرّائِقَةِ؛ حَسْبَما أُشِيرَ إلَيْهِ في تَضاعِيفِ تَفْسِيرِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِنَ التَّرْغِيبِ في اقْتِفاءِ أثَرِهِمْ؛ والإرْشادِ إلى اقْتِداءِ سَيْرِهِمْ؛ ما لا يَخْفى مَكانُهُ؛ واللَّهُ ولِيُّ الهِدايَةِ والتَّوْفِيقِ.
{"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











