الباحث القرآني

﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالجُنُودِ﴾: أيْ: انْفَصَلَ بِهِمْ عَنْ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ والأصْلُ: "فَصَلَ نَفْسَهُ"؛ ولَمّا اتَّحَدَ فاعِلُهُ؛ ومَفْعُولُهُ؛ شاعَ اسْتِعْمالُهُ مَحْذُوفَ المَفْعُولِ؛ حَتّى نَزَلَ مَنزِلَةَ القاصِرِ؛ كَـ "انْفَصَلَ"؛ وقِيلَ: "فَصَلَ؛ فُصُولًا"؛ وقَدْ جُوِّزَ كَوْنُهُ أصْلًا بِرَأْسِهِ؛ مُمْتازًا مِنَ المُتَعَدِّي بِمَصْدَرِهِ؛ كَـ "وَقَفَ؛ وُقُوفًا"؛ و"وَقَفَهُ؛ وقْفًا"؛ وكَـ "صَدَّ؛ صُدُودًا"؛ و"صَدَّهُ؛ صَدًّا"؛ و"رَجَعَ؛ رُجُوعًا"؛ و"رَجَعَهُ؛ رَجْعًا"؛ والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن "طالُوتُ"؛ أيْ: مُلْتَبِسًا بِهِمْ؛ ومُصاحِبًا لَهُمْ؛ رُوِيَ أنَّهُ قالَ لِقَوْمِهِ: "لا يَخْرُجْ مَعِي رَجُلٌ بَنى بِناءً لَمْ يَفْرُغْ مِنهُ؛ ولا تاجِرٌ مُشْتَغِلٌ بِالتِّجارَةِ؛ ولا مُتَزَوِّجٌ بِامْرَأةٍ لَمْ يَبْنِ عَلَيْها؛ ولا أبْتَغِي إلّا الشّابَّ النَّشِيطَ؛ الفارِغَ؛ فاجْتَمَعَ إلَيْهِ مِمَّنِ اخْتارَهُ ثَمانُونَ ألْفًا؛ وكانَ الوَقْتُ قَيْظًا؛ وسَلَكُوا مَفازَةً؛ فَسَألُوا أنْ يُجْرِيَ اللَّهُ (تَعالى) لَهم نَهْرًا؛ فَبَعْدَما ظَهَرَ لَهُ ما تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ (تَعالى) مِن جِهَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ أوْ بِطَرِيقِ الوَحْيِ؛ عِنْدَ مَن يَقُولُ بِنُبُوَّتِهِ؛ ﴿قالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكم بِنَهَرٍ﴾؛ بِفَتْحِ الهاءِ؛ وقُرِئَ بِسُكُونِها؛ ﴿فَمَن شَرِبَ مِنهُ﴾؛ أيْ: ابْتَدَأ شُرْبَهُ مِنَ النَّهْرِ؛ بِأنْ كَرَعَ؛ لِأنَّهُ الشُّرْبُ مِنهُ حَقِيقَةً؛ ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾؛ أيْ: مِن جُمْلَتِي؛ وأشْياعِي المُؤْمِنِينَ؛ وقِيلَ: لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِي؛ ومُتَّحِدٍ مَعِي؛ مِن قَوْلِهِمْ: "فُلانٌ مِنِّي"؛ كَأنَّهُ بَعْضُهُ؛ لِكَمالِ اخْتِلاطِهِما؛ ﴿وَمَن لَمْ يَطْعَمْهُ﴾؛ أيْ: لَمْ يَذُقْهُ؛ مِن "طَعِمَ الشَّيْءَ"؛ إذا ذاقَهُ؛ مَأْكُولًا كانَ أوْ مَشْرُوبًا؛ أوْ غَيْرَهُما؛ قالَ: ؎ وإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ ∗∗∗ وإنْ شِئْتِ لَمْ أطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدا ؛ أيْ: نَوْمًا؛ ﴿فَإنَّهُ مِنِّي إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾: اسْتِثْناءٌ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾؛ وإنَّما أُخِّرَ عَنِ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ لِإبْرازِ كَمالِ العِنايَةِ بِها؛ ومَعْناهُ: الرُّخْصَةُ في اغْتِرافِ الغُرْفَةِ بِاليَدِ؛ دُونَ الكُرُوعِ؛ و"الغُرْفَةُ": ما يُغْرَفُ؛ وقُرِئَ بِفَتْحِ الغَيْنِ؛ عَلى أنَّها مَصْدَرٌ؛ والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "اغْتَرَفَ"؛ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ "غُرْفَةً"؛ أيْ: غُرْفَةً كائِنَةً بِيَدِهِ؛ يُرْوى أنَّ الغُرْفَةَ كانَتْ (p-243)تَكْفِي الرَّجُلَ لِشُرْبِهِ؛ وإداوَتِهِ؛ ودَوابِّهِ؛ وأمّا الَّذِينَ شَرِبُوا مِنهُ فَقَدِ اسْوَدَّتْ شِفاهُهُمْ؛ وغَلَبَهُمُ العَطَشُ؛ ﴿فَشَرِبُوا مِنهُ﴾: عَطْفٌ عَلى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ المَقامُ؛ أيْ: فابْتُلُوا بِهِ؛ فَشَرِبُوا مِنهُ؛ ﴿إلا قَلِيلا مِنهُمْ﴾؛ وهُمُ المُشارُ إلَيْهِمْ فِيما سَلَفَ؛ بِالِاسْتِثْناءِ مِنَ التَّوَلِّي؛ وقُرِئَ: "إلّا قَلِيلٌ مِنهُمْ"؛ مَيْلًا إلى جانِبِ المَعْنى؛ وضَرْبًا عَنْ عُدْوَةِ اللَّفْظِ جانِبًا؛ فَإنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿فَشَرِبُوا مِنهُ﴾؛ في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: "فَلَمْ يُطِيعُوهُ"؛ فَحُقَّ أنْ يَرِدَ المُسْتَثْنى مَرْفُوعًا؛ كَما في قَوْلِ الفَرَزْدَقِ: ؎ وعَضَّ زَمانٌ يا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ ∗∗∗ مِنَ المالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ فَإنَّ قَوْلَهُ "لَمْ يَدَعْ"؛ في حُكْمِ "لَمْ يَبْقَ"؛ ﴿فَلَمّا جاوَزَهُ﴾؛ أيْ: النَّهْرَ؛ ﴿هُوَ﴾؛ أيْ: طالُوتُ؛ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾: عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المُؤَكَّدِ بِالمُنْفَصِلِ؛ والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جاوَزَ"؛ لا بِـ "آمَنُوا"؛ وقِيلَ: الواوُ حالِيَّةٌ؛ والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ خَبَرًا مِنَ المَوْصُولِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "فَلَمّا جاوَزَهُ والحالُ أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كائِنُونَ مَعَهُ؛ وهم أُولَئِكَ القَلِيلُ"؛ وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ مَن عَداهم بِمَعْزِلٍ مِنَ الإيمانِ؛ ﴿قالُوا﴾؛ أيْ: بَعْضُ مَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ لِبَعْضٍ: ﴿لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ﴾؛ أيْ: بِمُحارَبَتِهِمْ؛ ومُقاوَمَتِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ لَنا غَلَبَةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِما شاهَدُوا مِنهم مِنَ الكَثْرَةِ؛ والشِّدَّةِ؛ قِيلَ: كانُوا مِائَةَ ألْفِ مُقاتِلٍ شاكِي السِّلاحِ؛ قالَ: اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ مُخاطِبُهُمْ؟ فَقِيلَ: ﴿قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو اللَّهِ﴾؛ قِيلَ: أيْ: الخُلَّصُ مِنهُمْ؛ الَّذِينَ يَتَيَقَّنُونَ لِقاءَ اللَّهِ (تَعالى) بِالبَعْثِ؛ ويَتَوَقَّعُونَ ثَوابَهُ؛ وإفْرادُهم بِذَلِكَ الوَصْفِ لا يُنافِي إيمانَ الباقِينَ؛ فَإنَّ دَرَجاتِ المُؤْمِنِينَ في التَّيَقُّنِ؛ والتَّوَقُّعِ مُتَفاوِتَةٌ؛ أوْ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّهم يُسْتَشْهَدُونَ عَمّا قَرِيبٍ فَيَلْقَوْنَ اللَّهَ (تَعالى)؛ وقِيلَ: المَوْصُولُ عِبارَةٌ عَنِ المُؤْمِنِينَ كافَّةً؛ والضَّمِيرُ في "قالُوا" لِلْمُنْخَذِلِينَ عَنْهُمْ؛ كَأنَّهم قالُوهُ اعْتِذارًا عَنِ التَّخَلُّفِ؛ والنَّهْرُ بَيْنَهُما؛ ﴿كَمْ مِن فِئَةٍ﴾؛ أيْ: فِرْقَةٍ؛ وجَماعَةٍ مِنَ النّاسِ؛ مِن "فَأوْتُ رَأْسَهُ"؛ إذا شَقَقْتُها؛ أوْ مِن "فاءَ إلَيْهِ"؛ إذا رَجَعَ؛ فَوَزْنُها عَلى الأوَّلِ "فِعَةٌ"؛ وعَلى الثّانِي "فِلَةٌ"؛ ﴿قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾؛ و"كَمْ"؛ خَبَرِيَّةً كانَتْ أوِ اسْتِفْهامِيَّةً؛ مُفِيدَةٌ لِلتَّكْثِيرِ؛ وهي في حَيِّزِ الرَّفْعِ بِالِابْتِداءِ؛ خَبَرُها "غَلَبَتْ"؛ أيْ: كَثِيرٌ مِنَ الفِئاتِ القَلِيلَةِ غَلَبَتِ الفِئاتِ الكَثِيرَةَ؛ ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾؛ أيْ: بِحُكْمِهِ؛ وتَيْسِيرِهِ؛ فَإنَّ دَوَرانَ كافَّةِ الأُمُورِ عَلى مَشِيئَتِهِ (تَعالى)؛ فَلا يُذَلُّ مَن نَصَرَهُ؛ وإنْ قَلَّ عَدَدُهُ؛ ولا يُعَزُّ مَن خَذَلَهُ؛ وإنْ كَثُرَ أسْبابُهُ؛ وعَدَدُهُ؛ وقَدْ رُوعِيَ في الجَوابِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ؛ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ "أطاقَتْ بِفِئَةٍ كَثِيرَةٍ"؛ حَسْبَما وقَعَ في كَلامِ أصْحابِهِمْ؛ مُبالَغَةً في رَدِّ مَقالَتِهِمْ؛ وتَسْكِينِ قُلُوبِهِمْ؛ وهَذا كَما تَرى جَوابٌ ناشِئٌ مِن كَمالِ ثِقَتِهِمْ بِنَصْرِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وتَوْفِيقِهِ؛ ولا دَخْلَ في ذَلِكَ لِظَنِّ لِقاءِ اللَّهِ (تَعالى) بِالبَعْثِ؛ لا سِيَّما بِالِاسْتِشْهادِ؛ فَإنَّ العِلْمَ بِهِ رُبَّما يُورِثُ اليَأْسَ مِنَ الغَلَبَةِ؛ ولا لِتَوَقُّعِ ثَوابِهِ (تَعالى)؛ ولا رَيْبَ في أنَّ ما ذُكِرَ في حَيِّزِ الصِّلَةِ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَدارًا لِلْحُكْمِ الوارِدِ عَلى المَوْصُولِ؛ فَلا أقَلَّ مِن أنْ يَكُونَ وصْفًا مُلائِمًا لَهُ؛ فَلَعَلَّ المُرادَ بِلِقائِهِ (تَعالى) لِقاءُ نَصْرِهِ؛ وتَأْيِيدِهِ؛ عُبِّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ مُبالَغَةً؛ كَما عُبِّرَ عَنْ مُقارَنَةِ نَصْرِهِ (تَعالى) بِمُقارَنَتِهِ - سُبْحانَهُ -؛ حَيْثُ قِيلَ: ﴿واللَّهُ مَعَ الصّابِرِينَ﴾؛ فَإنَّ المُرادَ بِهِ مَعِيَّةُ نَصْرِهِ؛ وتَوْفِيقِهِ حَتْمًا؛ وحَمْلُها عَلى المَعِيَّةِ بِالإثابَةِ؛ كَما فُعِلَ؛ يَأْباهُ أنَّهم إنَّما قالُوهُ تَتْمِيمًا لِجَوابِهِمْ؛ وتَأْكِيدًا لَهُ بِطَرِيقِ الِاعْتِراضِ التَّذْيِيلِيِّ؛ تَشْجِيعًا لِأصْحابِهِمْ؛ وتَثْبِيتًا لَهم عَلى الصَّبْرِ المُؤَدِّي إلى الغَلَبَةِ؛ ولا تَعَلُّقَ لَهُ بِما ذُكِرَ مِنَ المَعِيَّةِ بِالإثابَةِ قَطْعًا؛ وكَذا الحالُ إذا جُعِلَ ذَلِكَ ابْتِداءَ كَلامٍ مِن جِهَةِ اللَّهِ (تَعالى)؛ جِيءَ بِهِ تَقْرِيرًا لِكَلامِهِمْ؛ والمَعْنى: "قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ؛ أوْ يَعْلَمُونَ مِن جِهَةِ النَّبِيِّ؛ أوْ مِن جِهَةِ التّابُوتِ؛ والسِّكِّينَةِ؛ أنَّهم مُلاقُو نَصْرِ اللَّهِ العَزِيزِ: كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ (تَعالى)! فَنَحْنُ أيْضًا نَغْلِبُ جالُوتَ؛ وجُنُودَهُ"؛ وإيرادُ خَبَرِ "أنَّ" اسْمًا؛ مَعَ أنَّ اللِّقاءَ (p-244)مُسْتَقْبَلٌ؛ لِلدَّلالَةِ عَلى تَقَرُّرِهِ؛ وتَحَقُّقِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب