الباحث القرآني

﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مَن دُونِ اللَّهِ﴾: بَيانٌ لِكَمالِ رَكاكَةِ آراءِ المُشْرِكِينَ؛ إثْرَ تَقْرِيرِ وحْدانِيَّتِهِ - سُبْحانَهُ -؛ وتَحْرِيرِ الآياتِ الباهِرَةِ؛ المُلْجِئَةِ لِلْعُقَلاءِ إلى الِاعْتِرافِ بِها؛ الفائِضَةِ بِاسْتِحالَةِ أنْ يُشارِكَهُ شَيْءٌ مِنَ المَوْجُوداتِ في صِفَةٍ مِن صِفاتِ الكَمالِ؛ فَضْلًا عَنِ المُشارَكَةِ في صِفَةِ الأُلُوهِيَّةِ؛ والكَلامُ في إعْرابِهِ كَما فُصِّلَ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ إلَخْ.. و"مِن دُونِ اللَّهِ": مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَتَّخِذُ"؛ أيْ: مِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ذَلِكَ الإلَهِ الواحِدِ؛ الَّذِي ذُكِرَتْ شُئُونُهُ الجَلِيلَةُ؛ وإيثارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَعْيِينِهِ (تَعالى) بِالذّاتِ؛ غِبَّ تَعْيِينِهِ بِالصِّفاتِ؛ ﴿أنْدادًا﴾؛ أيْ: أمْثالًا؛ وهم رُؤَساؤُهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهم فِيما يَأْتُونَ؛ وما يَذَرُونَ؛ لا سِيَّما في الأوامِرِ؛ والنَّواهِي؛ كَما يُفْصِحُ عَنْهُ ما سَيَأْتِي مِن وصْفِهِمْ بِالتَّبَرِّي مِنَ المُتَّبِعِينَ؛ وقِيلَ: هي الأصْنامُ؛ وإرْجاعُ ضَمِيرِ العُقَلاءِ إلَيْها؛ في قَوْلِهِ - عَزَّ وعَلا -: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾؛ مَبْنِيٌّ عَلى آرائِهِمُ الباطِلَةِ في شَأْنِها مِن وصْفِهِمْ بِما لا يُوصَفُ بِهِ إلّا العُقَلاءُ؛ والمَحَبَّةُ: مَيْلُ القَلْبِ؛ مِن "الحَبُّ"؛ اسْتُعِيرَ لِحَبَّةِ القَلْبِ؛ ثُمَّ اشْتُقَّ مِنهُ "الحُبُّ"؛ لِأنَّهُ أصابَها؛ ورَسَخَ فِيها؛ والفِعْلُ مِنها "حَبَّ"؛ عَلى حَدِّ "مَدَّ"؛ لَكِنَّ الِاسْتِعْمالَ المُسْتَفِيضَ عَلى "أحَبَّ؛ حُبًّا؛ ومَحَبَّةً"؛ فَهو "مُحِبٌّ"؛ وذاكَ "مَحْبُوبٌ"؛ و"مُحَبٌّ" قَلِيلٌ؛ و"حابٌّ"؛ أقَلُّ مِنهُ؛ ومَحَبَّةُ العَبْدِ لِلَّهِ - سُبْحانَهُ - إرادَةُ طاعَتِهِ في أوامِرِهِ؛ ونَواهِيهِ؛ والِاعْتِناءُ بِتَحْصِيلِ مَراضِيهِ؛ فَمَعْنى "يُحِبُّونَهُمْ": يُطِيعُونَهُمْ؛ ويُعَظِّمُونَهُمْ؛ والجُمْلَةُ في حَيِّزِ النَّصْبِ؛ إمّا صِفَةً لِـ "أنْدادًا"؛ أوْ حالًا مِن فاعِلِ "يَتَّخِذُ"؛ وجَمْعُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبارِ مَعْنى "مِن"؛ كَما أنَّ إفْرادَهُ بِاعْتِبارِ لَفْظِها؛ ﴿كَحُبِّ اللَّهِ﴾: مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ؛ أيْ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مُؤَكِّدٍ لِلْفِعْلِ السّابِقِ؛ ومِن قَضِيَّةِ كَوْنِهِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ كَوْنُهُ أيْضًا كَذَلِكَ؛ والظّاهِرُ اتِّحادُ فاعِلِهِما؛ فَإنَّهم كانُوا يُقِرُّونَ بِهِ (تَعالى) أيْضًا؛ ويَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ؛ فالمَعْنى: يُحِبُّونَهم حُبًّا كائِنًا كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ (تَعالى)؛ أيْ: يُسَوُّونَ بَيْنَهُ (تَعالى)؛ وبَيْنَهم في الطّاعَةِ؛ والتَّعْظِيمِ؛ وقِيلَ: فاعِلُ الحُبِّ المَذْكُورِ هم (p-186)المُؤْمِنُونَ؛ فالمَعْنى: حُبًّا كائِنًا كَحُبِّ المُؤْمِنِينَ لَهُ (تَعالى)؛ فَلا بُدَّ مِنَ اعْتِبارِ المُشابَهَةِ بَيْنَهُما في أصْلِ الحُبِّ؛ لا في وصْفِهِ كَمًّا أوْ كَيْفًا؛ لِما سَيَأْتِي مِنَ التَّفاوُتِ البَيِّنِ؛ وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ مِنَ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ؛ أيْ: كَما يُحَبُّ اللَّهُ (تَعالى)؛ ويُعَظَّمُ؛ وإنَّما اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ مَن يُحِبُّهُ لِأنَّهُ غَيْرُ مُلْبَسٍ؛ وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّهُ لا مُشابَهَةَ بَيْنَ مَحَبِّيَتِهِمْ لِأنْدادِهِمْ؛ وبَيْنَ مَحْبُوبِيَّتِهِ (تَعالى)؛ فالمَصِيرُ حِينَئِذٍ ما أسْلَفْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - عَزَّ قائِلًا -: ﴿كَما سُئِلَ مُوسى مِن قَبْلُ﴾؛ وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في مَقامِ الإضْمارِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ؛ وتَفْخِيمِ المُضافِ؛ وإبانَةِ كَمالِ قُبْحِ ما ارْتَكَبُوهُ؛ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾: جُمْلَةٌ مُبْتَدَأةٌ؛ جِيءَ بِها تَوْطِئَةً لِما يَعْقُبُها مِن بَيانِ رَخاوَةِ حُبِّهِمْ؛ وكَوْنِهِ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ؛ والمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: المُؤْمِنُونَ أشَدُّ حُبًّا لَهُ (تَعالى) مِنهم لِأنْدادِهِمْ؛ ومَآلُهُ أنَّ حُبَّ أُولَئِكَ لَهُ (تَعالى) أشَدُّ مِن حُبِّ هَؤُلاءِ لِأنْدادِهِمْ؛ فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى كَوْنِ الحُبِّ مَصْدَرًا مِنَ المَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ ما لا يَخْفى؛ وإنَّما لَمْ يُجْعَلِ المُفَضَّلُ عَلَيْهِ حُبَّهم لِلَّهِ (تَعالى) لِما أنَّ المَقْصُودَ بَيانُ انْقِطاعِهِ؛ وانْقِلابِهِ بُغْضًا؛ وذَلِكَ إنَّما يُتَصَوَّرُ في حُبِّهِمْ لِأنْدادِهِمْ؛ لِكَوْنِهِ مَنُوطًا بِمَبانٍ فاسِدَةٍ؛ ومَبادٍ مَوْهُومَةٍ؛ يَزُولُ بِزَوالِها؛ قِيلَ: ولِذَلِكَ كانُوا يَعْدِلُونَ عَنْها عِنْدَ الشَّدائِدِ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ -؛ وكانُوا يَعْبُدُونَ صَنَمًا أيّامًا؛ فَإذا وجَدُوا آخَرَ رَفَضُوهُ إلَيْهِ؛ وقَدْ أكَلَتْ باهِلَةُ إلَهَها عامَ المَجاعَةِ؛ وكانَ مِن "حَيْسٍ"؛ وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ مَدارَ ذَلِكَ اعْتِبارُ اخْتِلالِ حُبِّهِمْ لَها في الدُّنْيا؛ ولَيْسَ الكَلامُ فِيهِ؛ بَلْ في انْقِطاعِهِ؛ في الآخِرَةِ؛ عِنْدَ ظُهُورِ حَقِيقَةِ الحالِ؛ ومُعايَنَةِ الأهْوالِ كَما سَيَأْتِي؛ بَلِ اعْتِبارُهُ مُخِلٌّ بِما يَقْتَضِيهِ مَقامُ المُبالَغَةِ في بَيانِ كَمالِ قُبْحِ ما ارْتَكَبُوهُ؛ وغايَةِ عِظَمِ ما اقْتَرَفُوهُ. وإيثارُ الإظْهارِ في مَوْضِعِ الإضْمارِ لِتَفْخِيمِ الحُبِّ؛ والإشْعارِ بِعِلَّتِهِ. ﴿وَلَوْ يَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أيْ: بِاتِّخاذِ الأنْدادِ؛ ووَضْعِها مَوْضِعَ المَعْبُودِ؛ ﴿إذْ يَرَوْنَ العَذابَ﴾؛ المُعَدَّ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ؛ أيْ: لَوْ عَلِمُوا إذا عايَنُوهُ؛ وإنَّما أُوثِرَ صِيغَةُ المُسْتَقْبَلِ لِجَرَيانِها مُجْرى الماضِي في الدَّلالَةِ عَلى التَّحَقُّقِ في إخْبارِ عَلّامِ الغُيُوبِ؛ ﴿أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾: سادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَرى"؛ ﴿وَأنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذابِ﴾: عَطْفٌ عَلَيْهِ؛ وفائِدَتُهُ المُبالَغَةُ في تَهْوِيلِ الخَطْبِ؛ وتَفْظِيعِ الأمْرِ؛ فَإنَّ اخْتِصاصَ القُوَّةِ بِهِ (تَعالى) لا يُوجِبُ شِدَّةَ العَذابِ؛ لِجَوازِ تَرْكِهِ عَفْوًا مَعَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ وجَوابُ "لَوْ" مَحْذُوفٌ؛ لِلْإيذانِ بِخُرُوجِهِ عَنْ دائِرَةِ البَيانِ؛ إمّا لِعَدَمِ الإحاطَةِ بِكُنْهِهِ؛ وإمّا لِضِيقِ العِبارَةِ عَنْهُ؛ وإمّا لِإيجابِ ذِكْرِهِ ما لا يَسْتَطِيعُهُ المُعَبِّرُ؛ أوِ المُسْتَمِعُ مِنَ الضَّجَرِ؛ والتَّفَجُّعِ عَلَيْهِ؛ أيْ: لَوْ عَلِمُوا إذْ رَأوُا العَذابَ قَدْ حَلَّ بِهِمْ؛ ولَمْ يُنْقِذْهم مِنهُ أحَدٌ مِن أنْدادِهِمْ؛ أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا؛ ولا دَخْلَ لَأحَدٍ في شَيْءٍ أصْلًا؛ لَوَقَعُوا مِنَ الحَسْرَةِ؛ والنَّدَمِ؛ فِيما لا يَكادُ يُوصَفُ؛ وقُرِئَ: "وَلَوْ تَرى"؛ بِالتّاءِ الفَوْقانِيَّةِ؛ عَلى أنَّ الخِطابَ لِلرَّسُولِ ﷺ؛ أوْ لِكُلِّ أحَدٍ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْخِطابِ؛ فالجَوابُ حِينَئِذٍ: لَرَأيْتَ أمْرًا لا يُوصَفُ؛ مِنَ الهَوْلِ؛ والفَظاعَةِ؛ وقُرِئَ: "إذْ يُرَوْنَ"؛ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ؛ و"إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذابِ"؛ عَلى الِاسْتِئْنافِ؛ وإضْمارِ القَوْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب