الباحث القرآني

﴿قالَ﴾ اسْتِئْنافٌ كَما مَرَّ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِمّا سَلَفَ، و "الكافُ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ قالَ رَبُّكَ﴾ مُقْحَمَةٌ، كَما في مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ مَحَلُّها إمّا النَّصْبُ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ لِقالَ الثّانِي، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى مَصْدَرِهِ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ الوَعْدِ السّابِقِ لا إلى قَوْلٍ آخَرَ شُبِّهَ هَذا بِهِ، وقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْوَعْدِ المَذْكُورِ دالَّةٌ عَلى إنْجازِهِ داخِلَةٌ في حَيِّزِ "قالَ" الأوَّلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: مِثْلُ (p-257)ذَلِكَ القَوْلِ البَدِيعِ قُلْتُ، أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الوَعْدِ الخارِقِ لِلْعادَةِ، وعَدْتُ هو عَلَيَّ خاصَّةً هَيِّنٌ، وإنْ كانَ في العادَةِ مُسْتَحِيلًا. وقُرِئَ: (وَهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فالجُمْلَةُ حِينَئِذٍ حالٌ مِن رَبِّكَ، و "الياءُ" عِبارَةٌ عَنْ ضَمِيرِهِ كَما سَتَعْرِفُهُ، أوِ اعْتِراضٌ. وعَلى كُلِّ حالٍ فَهي مُؤَكَّدَةٌ ومُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها، ثُمَّ أُخْرِجَ القَوْلُ الثّانِي مَخْرَجَ الِالتِفاتِ جَرْيًا عَلى سَنَنِ الكِبْرِياءِ لِنُرِيَهُ المَهابَةِ، وإدْخالَ الرَّوْعَةِ كَقَوْلِ الخُلَفاءِ: أمِيرُ المُؤْمِنِينَ يَرْسُمُ لَكَ مَكانَ أنا أرْسُمُ. ثُمَّ أُسْنِدَ إلى اسْمِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ تَشْرِيفًا لَهُ، وإشْعارًا بِعِلَّةِ الحُكْمِ. فَإنَّ تَذْكِيرَ جَرَيانِ أحْكامِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن إيجادِهِ مِنَ العَدَمِ، وتَصْرِيفِهِ في أطْوارِ الخَلْقِ مِن حالٍ إلى حالٍ شَيْئًا فَشَيْئًا إلى أنْ يَبْلُغَ كَمالَهُ اللّائِقَ بِهِ، مِمّا يَقْلَعُ أساسَ اسْتِبْعادِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِحُصُولِ المَوْعُودِ، ويُورِثُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الِاطْمِئْنانَ بِإنْجازِهِ لا مَحالَةَ، ثُمَّ التُفِتَ مِن ضَمِيرِ الغائِبِ العائِدِ إلى الرَّبِّ إلى ياءِ العَظَمَةِ إيذانًا بِأنَّ مَدارَ كَوْنِهِ هَيِّنًا عَلَيْهِ سُبْحانَهُ هو القُدْرَةُ الذّاتِيَّةُ لا رُبُوبِيَّتُهُ تَعالى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّةً وتَمْهِيدًا لِما يَعْقُبُهُ، وقِيلَ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَضَيْنا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أنَّ دابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ ولا يَخْرُجُ هَذا الوَجْهُ عَلى القِراءَةِ بِالواوِ، ولِأنَّها لا تَدْخُلُ بَيْنَ المُفَسِّرِ والمُفَسَّرِ، وإمّا الرَّفْعُ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن وعْدِهِ تَعالى، أيْ: قالَ عَزَّ وعَلا: الأمْرُ كَما وعَدْتُ، وهو واقِعٌ لا مَحالَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "قالَ رَبُّكِ" ... إلَخِ. اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِهِ، والجُمْلَةُ المَحْكِيَّةُ عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلى المَحْكِيَّةِ الأُولى، أوْ حالٌ مِنَ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ والمَجْرُورِ، وأيًّا ما كانَ فَتَوْسِيطُ "قالَ" بَيْنَهُما مُشْعِرٌ بِمَزِيدِ الِاعْتِناءِ بِكُلٍّ مِنهُما، والكَلامُ في إسْنادِ القَوْلِ إلى الرَّبِّ، ثُمَّ الِالتِفاتِ إلى التَّكَلُّمِ كالَّذِي مَرَّ آنِفًا، وقِيلَ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما قالَهُ زَكَرِيّا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أيْ: قالَ تَعالى: الأمْرُ كَما قُلْتَ تَصْدِيقًا لَهُ فِيما حَكاهُ مِنَ الحالَةِ المُبايِنَةِ لِلْوِلادَةِ في نَفْسِهِ، وفي امْرَأتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "قالَ رَبُّكِ ..." إلَخِ. اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِإزالَةِ اسْتِبْعادِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ، أيْ: قالَ تَعالى وهو مَعَ بُعْدِهِ في نَفْسِهِ عَلَيَّ هَيِّنٌ، والقِراءَةُ الثّانِيَةُ أدْخَلُ في إفادَةِ هَذا المَعْنى عَلى أنَّ الواوَ لِلْعَطْفِ، وأمّا جَعْلُها لِلْحالِ فَمُخِلٌّ بِسِدادِ المَعْنى؛ لِأنَّ مَآلَهُ تَقْرِيرُ صُعُوبَتِهِ حالَ سُهُولَتِهِ عَلَيْهِ تَعالى مَعَ أنَّ المَقْصُودَ بَيانُ سُهُولَتِهِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ مَعَ صُعُوبَتِهِ في نَفْسِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها، والمُرادُ بِهِ: ابْتِداءُ خَلْقِ البَشَرِ هو الواقِعُ إثْرَ العَدَمِ المَحْضِ لا ما كانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطْرِيقِ التَّوالُدِ المُعْتادِ، وإنَّما لَمْ يُنْسَبْ ذَلِكَ إلى آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو المَخْلُوقُ مِنَ العَدَمِ حَقِيقَةً بِأنْ يُقالَ: وقَدْ خَلَقْتُ أباكَ أوْ آدَمَ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا، مَعَ كِفايَتِهِ في إزالَةِ الِاسْتِبْعادِ بِقِياسِ حالِ ما بُشِّرَ بِهِ عَلى حالِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِتَأْكِيدِ الِاحْتِجاجِ بِهِ، وتَوْضِيحِ مِنهاجِ القِياسِ. حَيْثُ نُبِّهَ عَلى أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ البَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِن إنْشائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ العَدَمِ، إذْ لَمْ تَكُنْ فِطْرَتُهُ البَدِيعَةُ مَقْصُورَةً عَلى نَفْسِهِ بَلْ كانَتْ أُنْمُوذَجًا مُنْطَوِيًا عَلى فِطْرِيَّةِ سائِرِ آحادِ الجِنْسِ انْطِواءً إجْمالِيًّا مُسْتَتْبِعًا لِجَرَيانِ آثارِها عَلى الكُلِّ، فَكانَ إبْداعُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ إبْداعًا لِكُلِّ أحَدٍ مِن فُرُوعِهِ كَذَلِكَ، ولَمّا كانَ خَلْقُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى هَذا النَّمَطِ السّارِي إلى جَمِيعِ أفْرادِ ذُرِّيَّتِهِ أبْدَعَ مِن أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلى نَفْسِهِ، كَما هو المَفْهُومُ مِن نِسْبَةِ الخَلْقِ المَذْكُورِ إلَيْهِ، وأدَلَّ عَلى عِظَمِ قدرته تعالى، وكَمالِ عَلَمِهِ وحِكْمَتِهِ. وكانَ عَدَمُ (p-258)زَكَرِيّا حِينَئِذٍ أظْهَرَ عِنْدَهُ، وأجْلى. وكانَ حالُهُ أوْلى بِأنْ يَكُونَ مِعْيارًا لِحالِ ما بُشِّرَ بِهِ نُسِبَ الخَلْقُ المَذْكُورُ إلَيْهِ، كَما نُسِبَ الخَلْقُ والتَّصْوِيرُ إلى المُخاطَبِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ تَوْفِيَةً لِمَقامِ الِامْتِنانِ حَقَّهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ في تَضاعِيفِ خَلْقِ آدَمَ، ولَمْ تَكُنْ إذْ ذاكَ شَيْئًا أصْلًا بَلْ عَدَمًا بَحْتًا ونَفْيًا صِرْفًا هَذا. وأمّا حَمْلُ الشَّيْءِ عَلى المُعْتَدِّ بِهِ، أيْ: ولَمْ تَكُنْ شَيْئًا مُعْتَدًّا بِهِ فَيَأْباهُ المَقامُ، ويَرُدُّهُ نَظْمُ الكَلامِ، وقُرِئَ: (خَلَقْناكَ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب