الباحث القرآني

﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ﴾ عِبارَةٌ عَنْ إلانَةِ الجانِبِ، والتَّواضُعِ، والتَّذَلُّلِ لَهُما، فَإنَّ إعْزازَهُما لا يَكُونُ إلّا بِذَلِكَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: واخْفِضْ لَهُما جَناحَكَ الذَّلِيلَ، أوْ جُعِلَ لِذُلِّهِ جَناحٌ كَما جَعَلَ لَبِيدٌ في قَوْلِهِ: ؎ وغَداةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفْتُ وقَرَّةٍ إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمامُها لِلْقَرَّةِ زِمامًا، ولِلشَّمالِ يَدًا تَشْبِيهًا لَهُ بِطائِرٍ يَخْفِضُ جَناحَهُ لِأفْراخِهِ تَرْبِيَةً لَها، وشَفَقَةً عَلَيْها، وأمّا جَعْلُ خَفْضِ الجَناحِ عِبارَةً عَنْ تَرْكِ الطَّيَرانِ كَما فَعَلَهُ القَفّالُ فَلا يُناسِبُ (p-167)المَقامَ. ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ مِن فَرْطِ رَحْمَتِكَ، وعَطْفِكَ عَلَيْهِما، ورِقَّتِكَ لَهُما، لِافْتِقارِهِما اليَوْمَ إلى مَن كانَ أفْقَرَ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى إلَيْهِما، ولا تَكْتَفِ بِرَحْمَتِكَ الفانِيَةِ بَلِ ادْعُ اللَّهَ لَهُما بِرَحْمَتِهِ الواسِعَةِ الباقِيَةِ، ﴿وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما﴾ بِرَحْمَتِكَ الدُّنْيَوِيَّةِ، والأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الهِدايَةُ إلى الإسْلامِ فَلا يُنافِي ذَلِكَ كُفْرَهُما. ﴿كَما رَبَّيانِي﴾ "الكافُ" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِهِما لِي، أوْ مِثْلَ رَحْمَتِهِما لِي. عَلى أنَّ التَّرْبِيَةَ رَحْمَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَهُما الرَّحْمَةُ والتَّرْبِيَةُ مَعًا، وقَدْ ذُكِرَ أحَدُهُما في أحَدِ الجانِبَيْنِ، والآخِرُ في الآخَرِ كَما يُلَوِّحُ بِهِ التَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الربوبية في مَطْلَعِ الدُّعاءِ، كَأنَّهُ قِيلَ: رَبِّ ارْحَمْهُما، ورَبِّهِما كَما رَحِمانِي ورَبَّيانِي ﴿صَغِيرًا﴾ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الكافُ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ: لِأجْلِ تَرْبِيَتِهِما لِي، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ ولَقَدْ بالَغَ عَزَّ وجَلَّ في التَّوْصِيَةِ بِهِما حَيْثُ افْتَتَحَها بِأنْ شَفَعَ الإحْسانَ إلَيْهِما بِتَوْحِيدِهِ سُبْحانَهُ، ونَظَمَها في سِلْكِ القَضاءِ بِهِما مَعًا، ثُمَّ ضَيَّقَ الأمْرَ في بابِ مُراعاتِهِما حَتّى لَمْ يُرَخِّصْ في أدْنى كَلِمَةٍ تَنْفَلِتُ مِنَ المُتَضَجِّرِ مَعَ ما لَهُ مِن مُوجِباتِ الضَّجَرِ ما لا يَكادُ يَدْخُلُ تَحْتَ الحَصْرِ، وخَتَمَها بِأنْ جَعَلَ رَحْمَتَهُ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مُشَبَّهَةً بِتَرْبِيَتِهِما، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: " «رِضى اللَّهِ في رِضى الوالِدَيْنِ، وسُخْطُهُ في سُخْطِهِما» ". ورُوِيَ «يَفْعَلُ البارُّ ما يَشاءُ أنْ يَفْعَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ النّارَ، ويَفْعَلَ العاقُّ ما يَشاءُ أنْ يَفْعَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ» . «وَقالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنَّ أبَوَيَّ بَلَغا مِنَ الكِبَرِ أنِّي ألِي مِنهُما ما ولِيا مِنِّي في الصِّغَرِ، فَهَلْ قَضَيْتُهُما حَقَّهُما؟ قالَ: لا، فَإنَّهُما كانا يَفْعَلانِ ذَلِكَ، وهُما يُحِبّانِ بَقاءَكَ، وأنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وأنْتَ تُرِيدُ مَوْتَهُما.» ورُوِيَ «أنَّ شَيْخًا أتى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: إنَّ ابْنِي هَذا لَهُ مالٌ كَثِيرٌ، وإنَّهُ لا يُنْفِقُ عَلَيَّ مِن مالِهِ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقالَ: إنَّ هَذا الشَّيْخَ قَدْ أنْشَأ في ابْنِهِ أبْياتًا، ما قُرِعَ سَمْعٌ بِمِثْلِها فاسْتَنْشِدْها فَأنْشَدَها الشَّيْخُ، فَقالَ: ؎ غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا ومُنْتُكَ يافِعًا ∗∗∗ تَعُلُّ بِما أجْنِي عَلَيْكَ وتَنْهَلُ ؎ إذا لَيْلَةٌ ضاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أبِتْ ∗∗∗ لِسُقْمِكَ إلّا باكِيًا أتَمَلْمَلُ ؎ كَأنِّي أنا المَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي ∗∗∗ طُرِقْتَ بِهِ دُونِي وعَيْنَيَّ تَهْمُلُ ؎ فَلَمّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغايَةَ الَّتِي ∗∗∗ إلَيْها مَدى ما كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ ؎ جَعَلْتَ جَزائِي غِلْظَةً وفَظاظَةً ∗∗∗ كَأنَّكَ أنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ ؎ فَلَيْتَكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ∗∗∗ فَعَلْتَ كَما الجارُ المُجاوِرُ يَفْعَلُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: "أنْتَ ومالُكَ لِأبِيكَ".»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب