الباحث القرآني
وَلَمّا بَيَّنَ كَوْنَ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ بَعْضًا مِنَ الكِتابِ، والقرآن لِتَوْجِيهِ المُخاطَبِينَ إلى حُسْنِ تَلَقِّي ما فِيها مِنَ الأحْكامِ، والقَصَصِ، والمَواعِظِ. شَرَعَ في بَيانِ ما تَتَضَمَّنُهُ فَقِيلَ: ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾
﴿رُبَما﴾ بِضَمِّ الرّاءِ، وتَخْفِيفِ الباءِ المَفْتُوحَةِ. وقُرِئَ: بِالتَّشْدِيدِ، وبِفَتْحِ الرّاءِ مُخَفَّفًا، وبِزِيادَةِ التّاءِ مُشَدَّدًا، وفِيهِ ثَمانِي لُغاتٍ: فَتْحُ الرّاءِ وضَمُّها مُشَدَّدًا ومُخَفَّفًا، وبِزِيادَةِ التّاءِ أيْضًا مُشَدَّدًا ومُخَفَّفًا، و "رُبَّ" حَرْفُ جَرٍّ لا يَدْخُلُ إلّا عَلى الِاسْمِ، و "ما" كافَّةٌ مُصَحِّحَةٌ لِدُخُولِها عَلى الفِعْلِ، وحَقُّهُ الدُّخُولُ عَلى الماضِي، ودُخُولُهُ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لِما أنَّ المُتَرَقَّبَ في أخْبارِهِ تَعالى كالماضِي المَقْطُوعِ في تَحَقُّقِ الوُقُوعِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: رُبَّما ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، والمُرادُ: كُفْرُهم بِالكِتابِ، والقرآن، وكَوْنِهِ (p-64)مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى.
﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ مُنْقادِينَ لِحُكْمِهِ، ومُذْعِنِينَ لِأمْرِهِ، وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّ كُفْرَهم إنَّما كانَ بِالجُحُودِ، بَعْدَ ما عَلِمُوا كَوْنَهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، وتِلْكَ الوَدادَةُ يَوْمَ القِيامَةِ، أوْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، أوْ عِنْدَ مُعايَنَةِ حالِهِمْ وحالِ المُسْلِمِينَ، أوْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ خُرُوجَ عُصاةِ المُسْلِمِينَ مِنَ النّارِ. ورَوى أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: " «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ واجْتَمَعْ أهْلُ النّارِ في النّارِ، ومَعَهم مَن شاءَ تَعالى مِن أهْلِ القِبْلَةِ، قالَ لَهُمُ الكُفّارُ: ألَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؟ قالُوا: بَلى. قالُوا: فَما أغْنى عَنْكم إسْلامُكُمْ، وقَدْ صِرْتُمْ مَعَنا إلى النّارِ؟ قالُوا: كانَتْ لَنا ذُنُوبٌ فَأُخِذْنا بِها، فَيَغْضَبُ اللَّهُ سُبْحانَهُ لَهم بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيَأْمُرُ بِكُلِّ مَن كانَ مِن أهْلِ القِبْلَةِ في النّارِ، فَيَخْرُجُونَ مِنها، فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» ". ورَوى مُجاهِدٌ عَنِ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: لا يَزالُ الرَّبُّ يَرْحَمُ، ويُشَفَّعُ إلَيْهِ حَتّى يَقُولَ: مَن كانَ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَنَّوْنَ الإسْلامَ. والحَقُّ أنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلى شِدَّةِ ودادَتِهِمْ، وأمّا نَفْسُ الوَدادَةِ فَلَيْسَتْ بِمُخْتَصَّةٍ بِوَقْتٍ دُونَ وقْتٍ، بَلْ هي مُقَرَّرَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ في كُلِّ آنٍ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ، وأنَّ المُرادَ بَيانُ ذَلِكَ عَلى ما هو عَلَيْهِ مِنَ الكَثْرَةِ، وإنَّما جِيءَ بِصِيغَةِ التَّقْلِيلِ جَرْيًا عَلى سَنَنِ العَرَبَ فِيما يَقْصِدُونَ بِهِ الإفْراطَ، فِيما يَعْكِسُونَ عَنْهُ تَقُولُ لِبَعْضِ قُوّادِ العَساكِرِ: كَمْ عِنْدَكَ مِنَ الفُرْسانِ؟ فَيَقُولُ: رُبَّ فارِسٍ عِنْدِي، أوْ لا تَعْدَمُ عِنْدِي فارِسًا، وعِنْدَهُ مَقانِبُ جَمَّةٌ مِنَ الكَتائِبِ، وقَصْدُهُ في ذَلِكَ: التَّمّارِي في تَكْثِيرِ فُرْسانِهِ، ولَكِنَّهُ يُرِيدُ إظْهارَ بَراءَتِهِ مِنَ التَّزَيُّدِ، وإبْرازَ أنَّهُ مِمَّنْ يُقَلِّلُ لِعُلُوِّ الهِمَّةِ كَثِيرَ ما عِنْدَهُ فَضْلًا عَنْ تَكْثِيرِ القَلِيلِ، وهَذِهِ طَرِيقَةٌ إنَّما تُسْلَكُ إذا كانَ الأمْرُ مِنَ الوُضُوحِ، بِحَيْثُ لا يَحُومُ حَوْلَهُ شائِبَةُ رَيْبٍ فَيُصارُ إلَيْهِ هَضْمًا لِلْحَقِّ، فَدَلَّ النَّظْمُ الكَرِيمُ عَلى ودادَةِ الكافِرِينَ لِلْإسْلامِ في كُلِّ آنٍ مِن آناتِ اليَوْمِ الآخِرِ، وأنَّ ذَلِكَ مِنَ الظُّهُورِ بِحَيْثُ لا يُشْتَبَهُ عَلى أحَدٍ، ولَوْ جِيءَ بِكَلامٍ يَدُلُّ عَلى ضِدِّهِ، وعَلى أنَّ تِلْكَ الوَدادَةَ مَعَ كَثْرَتِها في نَفْسِها مِمّا يُسْتَقَلُّ بِالنِّسْبَةِ إلى جَنابِ الكِبْرِياءِ، وهَذا هو المُوافِقُ لِمَقامِ بَيانِ حَقارَةِ شَأْنِ الكُفّارِ، وعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِما هم فِيهِ مِنَ الكُفْرِ، والتَّكْذِيبِ. كَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَرْهم يَأْكُلُوا﴾ ... الآيَةَ. أوْ ذَهابًا إلى الإشْعارِ بِأنَّ مِن شَأْنِ العاقِلِ إذا عَنَّ لَهُ أمْرٌ يَكُونُ مَظْنُونَ الحَمْدِ، أوْ قَلِيلًا ما يَكُونُ كَذَلِكَ. أنْ لا يُفارِقَهُ، ولا يُفارِقَ ضِدَّهُ. فَكَيْفَ إذا كانَ مُتَيَقِّنَ الحَمْدِ؟ كَما في قَوْلِهِمْ: لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلى ما فَعَلْتَ، ورُبَّما نَدِمَ الإنْسانُ عَلى ما فَعَلَ، فَإنَّ المَقْصُودَ: لَيْسَ بَيانَ كَوْنِ النَّدَمِ مَرْجُوَّ الوُجُودِ بِلا تَيَقُّنٍ بِهِ، أوْ قَلِيلَ الوُقُوعِ، بَلِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ العاقِلَ لا يُباشِرُ ما يُرْجى فِيهِ النَّدَمُ، أوْ يَقِلُّ وُقُوعُهُ فِيهِ. فَكَيْفَ بِقَطْعِيِّ الوُقُوعِ، وأنَّهُ يَكْفِي قَلِيلُ النَّدَمِ في كَوْنِهِ حاجِزًا عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ؟ فَكَيْفَ كَثِيرُهُ، والمَقْصُودُ مِن سُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إظْهارُ التَّرَفُّعِ، والِاسْتِغْناءُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالغَرَضِ بِناءً عَلى ادِّعاءِ ظُهُورِهِ؟ فالمَعْنى: لَوْ كانُوا يَوَدُّونَ الإسْلامَ مَرَّةً واحِدَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ لا يُفارِقُوهُ. فَكَيْفَ وهم يَوَدُّونَهُ كُلَّ آنٍ، وهَذا أوْفَقُ بِمَقامِ اسْتِنْزالِهِمْ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وهَذانِ طَرِيقانِ مُتَمايِزانِ ذاتًا، ومَقامًا، فَمَن ظَنَّهُما واحِدًا فَقَدْ نَأى عَنْ تَوْفِيَةِ المَقامِ حَقَّهُ؟
{"ayah":"رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ كَانُوا۟ مُسۡلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











