الباحث القرآني

﴿قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ فَإنَّهُ لِتَحْقِيقِ أنَّ خالِقَهُما، ومُتَوَلِّيَ أمْرِهِما مَعَ ما فِيهِما عَلى الإطْلاقِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أمْرٌ بِالجَوابِ مِن قِبَلِهِ ﷺ إشْعارًا بِأنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْجَوابِيَّةِ، فَهو والخَصْمُ في تَقْرِيرِهِ سَواءٌ، أوْ أمْرٌ بِحِكايَةِ اعْتِرافِهِمْ إيذانًا، بِأنَّهُ أمْرٌ لا بُدَّ لَهم مِن ذَلِكَ كَأنَّهُ قِيلَ: احْكِ اعْتِرافَهُمْ، فَبَكِّتْهم بِما يُلْزِمُهم مِنَ الحُجَّةِ، وألْقِمْهُمُ الحَجَرَ، أوْ أمْرٌ بِتَلْقِينِهِمْ ذَلِكَ إنْ تَلَعْثَمُوا في الجَوابِ، حَذَرًا مِنَ الإلْزامِ، فَإنَّهم لا يَتَمالَكُونَ إذْ ذاكَ ولا يَقْدِرُونَ عَلى إنْكارِهِ ﴿قُلْ﴾ إلْزامًا لَهم وتَبْكِيتًا ﴿أفاتَّخَذْتُمْ﴾ لِأنْفُسِكم والهَمْزَةُ لِإنْكارِ الواقِعِ كَما في قَوْلِكَ: أضَرَبْتَ أباكَ لا لِإنْكارِ الوُقُوعِ، كَما في قَوْلِكَ: أضَرَبْتَ أبِي، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ، أيْ: أعَلِمْتُمْ أنَّ رَبَّهُما هو اللَّهُ الَّذِي يَنْقادُ لِأمْرِهِ مَن فِيهِما كافَّةً فاتَّخَذْتُمْ عَقِيبَهُ. ﴿مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾ عاجِزِينَ. ﴿لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا﴾ يَسْتَجْلِبُونَهُ ﴿وَلا ضَرًّا.﴾ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنِ القُدْرَةِ عَلى جَلْبِ النَّفْعِ لِغَيْرِهِ، ودَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، لا عَلى الإنْكارِ مُتَوَجِّهًا إلى المَعْطُوفَيْنِ مَعًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: " أفَلا تَعْقِلُونَ " إذا قُدِّرَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ ألّا تَسْمَعُونَ، بَلْ إلى تَرَتُّبِ الثّانِي عَلى الأوَّلِ مَعَ (p-13)وُجُوبِ أنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَقِيضُهُ كَما إذا قُدِّرَ أتَسْمَعُونَ، والمَعْنى: أبْعَدَ أنْ عَلِمْتُمْ أنَّ رَبَّهُما هو اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ. اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِهِ أوْلِياءَ عَجَزَةً، والحالُ أنَّ قَضِيَّةَ العِلْمِ بِذَلِكَ، إنَّما هو الِاقْتِصارُ عَلى تَوَلِّيهِ فَعَكَسْتُمُ الأمْرَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِنَ دُونِي﴾، ووَصَفَ الأوْلِياءَ هَهُنا بِعَدَمِ المالِكِيَّةِ لِلنَّفْعِ والضُّرِّ في تَرْشِيحِ الإنْكارِ، وتَأْكِيدِهِ، كَتَقْيِيدِ الِاتِّخاذِ هُناكَ بِالجُمْلَةِ الحالِيَّةِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: " ﴿وَهم لَكم عَدُوٌّ﴾ " فَإنَّ كُلًّا مِنهُما مِمّا يَنْفِي الِاتِّخاذَ المَذْكُورَ، ويُؤَكِّدُ إنْكارَهُ. قُلْ تَصْوِيرًا لِآرائِهِمُ الرَّكِيكَةِ بِصُورَةِ المَحْسُوسِ. ﴿هَلْ يَسْتَوِي الأعْمى﴾ الَّذِي هو المُشْرِكُ الجاهِلُ بِالعِبادَةِ، ومُسْتَحَقِّها. ﴿والبَصِيرُ﴾ الَّذِي هو المُوَحِّدُ العالِمُ بِذَلِكَ، أوِ الأوَّلُ: عِبارَةٌ عَنِ المَعْبُودِ الغافِلِ. والثّانِي: إشارَةٌ إلى المَعْبُودِ العالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ. ﴿أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ﴾ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنِ الكُفْرِ والضَّلالِ. ﴿والنُّورُ﴾ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ التَّوْحِيدِ والإيمانِ. وقُرِئَ: بِالياءِ، ولَمّا دَلَّ النَّظْمُ الكَرِيمُ عَلى أنَّ الكُفْرَ فِيما فَعَلُوا مِنِ اتِّخاذِ الأصْنامِ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ سُبْحانَهُ في الضَّلالِ المَحْضِ، والخَطَأِ البَحْتِ، بِحَيْثُ لا يَخْفى بُطْلانُهُ عَلى أحَدٍ، وأنَّهم في ذَلِكَ كالأعْمى الَّذِي لا يَهْتَدِي إلى شَيْءٍ أصْلًا، ولَيْسَ لَهم في ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَصْلُحُ أنْ تَكُونَ مَنشَأً لِغَلَطِهِمْ، وخَطَئِهِمْ فَضْلًا، عَنِ الحُجَّةِ أُكِّدَ ذَلِكَ فَقِيلَ: ﴿أمْ جَعَلُوا لِلَّهِ﴾ أيْ: بَلْ أجَعَلُوا لَهُ ﴿شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ﴾ سُبْحانَهُ. والهَمْزَةُ لِإنْكارِ الوُقُوعِ لا لِإنْكارِ الواقِعِ مَعَ وُقُوعِهِ. وقَوْلُهُ: "خَلَقُوا كَخَلْقِهِ" هو الَّذِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الإنْكارُ، وأمّا نَفْسُ الجَعْلِ فَهو واقِعٌ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ الإنْكارُ بِهَذا المَعْنى. والمَعْنى: أنَّهم لَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ تَعالى شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ﴿فَتَشابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ بِسَبَبِ ذَلِكَ وقالُوا هَؤُلاءِ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ تَعالى: فاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ العِبادَةَ كَما اسْتَحَقَّها، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَنشَأً لِخَطَئِهِمْ، بَلْ إنَّما جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ ما هو بِمَعْزِلٍ مِن ذَلِكَ بِالمَرَّةِ، وفِيهِ ما لا يَخْفى مِنَ التَّعْرِيضِ بِرَكاكَةِ رَأْيِهِمْ والتَّهَكُّمِ بِهِمْ. ﴿قُلْ﴾ تَحْقِيقًا لِلْحَقِّ، وإرْشادًا لَهم إلَيْهِ ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كافَّةً لا خالِقَ سِواهُ، فَيُشارِكَهُ في اسْتِحْقاقِ العِبادَةِ. ﴿وَهُوَ الواحِدُ﴾ المُتَوَحِّدُ بِالأُلُوهِيَّةِ، المُتَفَرِّدُ بِالربوبية. ﴿القَهّارُ﴾ لِكُلِّ ما سِواهُ. فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ؟ وبَعْدَ ما مُثِّلَ المُشْرِكُ والشِّرْكُ بِالأعْمى والظُّلُماتِ. والمُوَحَّدُ والتَّوْحِيدُ بِالبَصِيرِ والنُّورِ. مُثِّلَ الحَقُّ الَّذِي هو القرآن العَظِيمُ في فَيَضانِهِ مِن جَنابِ القُدُسِ عَلى قُلُوبٍ خالِيَةٍ عَنْهُ، مُتَفاوِتَةِ الِاسْتِعْدادِ. وفي جَرَيانِهِ عَلَيْها مُلاحَظَةً، وحِفْظًا وعَلى الألْسِنَةِ مُذاكَرَةً، وتِلاوَةً. وفي ثَباتِهِ فِيهِما مَعَ كَوْنِهِ مُمِدًّا لِحَياتِها الرُّوحانِيَّةِ، وما يَتْلُوها مِنَ المَلَكاتِ السُّنِّيَّةِ، والأعْمالِ المَرْضِيَّةِ بِالماءِ، النّازِلِ مِنَ السَّماءِ السّائِلِ في أوْدِيَةٍ يابِسَةٍ لَمْ تَجْرِ عادَتُها بِذَلِكَ، سَيَلانًا مُقَدَّرًا بِمِقْدارٍ اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ في إحْياءِ الأرْضِ، وما عَلَيْها الباقِي فِيها حَسْبَما يَدُورُ عَلَيْهِ مَنافِعُ النّاسِ. وفي كَوْنِهِ حِلْيَةً تَتَحَلّى بِهِ النُّفُوسُ وتَصِلُ إلى البَهْجَةِ الأبَدِيَّةِ. ومَتاعًا يُتَمَتَّعُ بِهِ في المَعاشِ، والمَعادِ بِالذَّهَبِ، والفِضَّةِ، وسائِرِ الفِلِزّاتِ، الَّتِي يُتَّخَذُ مِنها أنْواعُ الآلاتِ، والأدَواتِ، وتَبْقى مُنْتَفَعًا بِها مُدَّةً طَوِيلَةً. ومُثِّلَ الباطِلُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ الكَفَرَةُ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ، بِما يَظْهَرُ فِيهِما مِن غَيْرِ مُداخَلَةٍ لَهُ فِيهِما، وإخْلالٍ بِصَفائِهِما مِنَ الزَّبَدِ الرّابِي فَوْقَهُما، المُضْمَحِلِّ سَرِيعًا فَقِيلَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب