الباحث القرآني

﴿وَتَوَلّى﴾ أيْ: أعْرَضَ ﴿عَنْهُمْ﴾ كَراهَةً لِما سَمِعَ مِنهم ﴿وَقالَ يا أسَفي عَلى يُوسُفَ﴾ الأسَفُ أشَدُّ الحُزْنِ والحَسْرَةِ، أضافَهُ إلى نَفْسِهِ، والألِفُ بَدَلٌ مِنَ الياءِ فَناداهُ، أيْ: يا أسَفِي تَعالى فَهَذا أوانُكَ، وإنَّما أسِفَ عَلى يُوسُفَ - مَعَ أنَّ الحادِثَ مُصِيبَةٌ أخَوَيْهِ - لِأنَّ رُزْأهُ كانَ قاعِدَةَ الأرْزاءِ غَضًّا عِنْدَهُ - وإنْ تَقادَمَ عَهْدُهُ - آخِذًا بِمَجامِعِ قَلْبِهِ لا يَنْساهُ؛ ولِأنَّهُ كانَ واثِقًا بِحَياتِهِما، عالِمًا بِمَكانِهِما، طامِعًا في إيابِهِما. وَأمّا يُوسُفُ فَلَمْ يَكُنْ في شَأْنِهِ ما يُحَرِّكُ سِلْسِلَةَ رَجائِهِ سِوى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى وفَضْلِهِ، وفي الخَبَرِ: ««لَمْ تُعْطَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ (إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ) إلّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ ألا يُرى إلى يَعْقُوبَ حِينَ أصابَهُ ما أصابَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ، بَلْ قالَ ما قالَ»» والتَّجانُسُ بَيْنَ لَفْظَيِ الأسَفِ ويُوسُفَ مِمّا يَزِيدُ النَّظْمَ الكَرِيمَ بَهْجَةً، كَما في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَهم يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأوْنَ عَنْهُ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ أرَضِيتُمْ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾، ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ونَظائِرِها. ﴿وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ﴾ المُوجِبِ لِلْبُكاءِ، فَإنَّ العَبْرَةَ إذا كَثُرَتْ مَحَقَتْ سَوادَ العَيْنِ وقَلَبَتْهُ إلى بَياضٍ كَدِرٍ، قِيلَ: قَدْ عَمِيَ بَصَرُهُ، وقِيلَ: كانَ يُدْرِكُ إدْراكًا ضَعِيفًا. رُوِيَ أنَّهُ ما جَفَّتْ عَيْنا يَعْقُوبَ مِن يَوْمِ فِراقِ يُوسُفَ إلى حِينِ لِقائِهِ ثَمانِينَ عامًا، وما عَلى وجْهِ الأرْضِ أكْرَمُ عَلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - مِن يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ سَألَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: "ما بَلَغَ مِن وجْدِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - (p-302)عَلى يُوسُفَ ؟" قالَ: وجْدَ سَبْعِينَ ثَكْلى، قالَ: "فَما كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ؟" قالَ: أجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ، وما ساءَ ظَنُّهُ بِاللَّهِ ساعَةً قَطُّ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ التَّأسُّفِ والبُكاءِ عِنْدَ النَّوائِبِ، فَإنَّ الكَفَّ عَنْ ذَلِكَ مِمّا لا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، فَإنَّهُ قَلَّ مَن يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّدائِدِ، ولَقَدْ بَكى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى ولَدِهِ إبْراهِيمَ، وقالَ: ««القَلْبُ يَحْزَنُ والعَيْنُ تَدْمَعُ ولا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الرَّبَّ، وإنّا عَلَيْكَ يا إبْراهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»» وإنَّما الَّذِي لا يَجُوزُ ما يَفْعَلُهُ الجَهَلَةُ مِنَ الصِّياحِ والنِّياحَةِ، ولَطْمِ الخُدُودِ والصُّدُورِ، وشَقِّ الجُيُوبِ وتَمْزِيقِ الثِّيابِ. «وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ بَكى عَلى ولَدِ بَعْضِ بَناتِهِ، وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْكِي وقَدْ نَهَيْتَنا عَنِ البُكاءِ؟ فَقالَ: «ما نَهَيْتُكم عَنِ البُكاءِ وإنَّما نَهَيْتُكم عَنْ صَوْتَيْنِ أحْمَقَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ الفَرَحِ وصَوْتٍ عِنْدَ التَّرَحِ».» ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ مَمْلُوءٌ مِنَ الغَيْظِ عَلى أوْلادِهِ، مُمْسِكٌ لَهُ في قَلْبِهِ، لا يُظْهِرُهُ، فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ مِن كَظَمَ السِّقاءَ إذا شَدَّهُ عَلى مَلَئِهِ، أوْ بِمَعْنى فاعِلٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿والكاظِمِينَ الغَيْظَ﴾ مِن كَظَمَ الغَيْظَ إذا اجْتَرَعَهُ، وأصْلُهُ كَظَمَ البَعِيرُ جِرَّتَهُ إذا رَدَّها في جَوْفِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب