الباحث القرآني

﴿قالُوا﴾ أيِ: الرُّسُلُ لَمّا شاهَدُوا عَجْزَهُ عَنْ مُدافَعَةِ قَوْمِهِ ﴿يا لُوطُ إنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ﴾ بِضَرَرٍ ولا مَكْرُوهٍ، فافْتَحِ البابَ، ودَعْنا وإيّاهُمْ، فَفَتَحَ البابَ، فَدَخَلُوا، فاسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَبَّهُ رَبَّ العِزَّةِ - جَلَّ جَلالُهُ - في عُقُوبَتِهِمْ، فَأذِنَ لَهُ، فَقامَ في الصُّورَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيها فَنَشَرَ جَناحَهُ ولَهُ جَناحانِ، وعَلَيْهِ وِشاحٌ مِن دُرٍّ مَنظُومٍ، وهو بَرّاقُ الثَّنايا، فَضَرَبَ بِجَناحِهِ وُجُوهَهم فَطَمَسَ أعْيُنَهم وأعْماهُمْ، كَما قالَ عَزَّ وعَلا: ﴿فَطَمَسْنا أعْيُنَهُمْ﴾ فَصارُوا لا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ، فَخَرَجُوا وهم يَقُولُونَ: النِّجاءَ النِّجاءَ، فَإنَّ في بَيْتِ لُوطٍ قَوْمًا سَحَرَةً. ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ﴾ بِالقَطْعِ مِنَ الإسْراءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ بِالوَصْلِ حَيْثُ جاءَ في القرآن مِنَ السُّرى، والفاءُ لِتَرْتِيبِ الأمْرِ بِالإسْراءِ عَلى الإخْبارِ بِرِسالَتِهِمُ المُؤْذِنَةِ بِوُرُودِ الأمْرِ والنَّهْيِ مِن جَنابِهِ - عَزَّ وجَلَّ - إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ بِطائِفَةٍ مِنهُ ﴿وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ﴾ أيْ: لا يَتَخَلَّفْ، أوْ لا يَنْظُرْ إلى ورائِهِ ﴿أحَدٌ﴾ مِنكَ ومِن أهْلِكَ، وإنَّما نُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِيَجِدُّوا في السَّيْرِ، فَإنَّ مَن يَلْتَفِتُ إلى ما وراءَهُ لا يَخْلُو عَنْ أدْنى وقْفَةٍ، أوْ لِئَلّا يَرَوْا ما يَنْزِلُ بِقَوْمِهِمْ مِنَ العَذابِ فَيَرِقُّوا لَهم ﴿إلا امْرَأتَكَ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: "فَأسْرِ بِأهْلِكَ" ويُؤَيِّدُهُ أنَّهُ قُرِئَ: (فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ إلّا امْرَأتَكَ) وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى البَدَلِ مِن (أحَدٌ) فالِالتِفاتُ بِمَعْنى التَّخَلُّفِ لا بِمَعْنى النَّظَرِ إلى الخَلْفِ؛ كَيْلا يَلْزَمَ التَّناقُضُ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ المُتَواتِرَتَيْنِ، فَإنَّ النَّصْبَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - غَيْرَ مَأْمُورٍ بِالإسْراءِ بِها، والرَّفْعَ كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، والِاعْتِذارُ بِأنَّ مُقْتَضى الرَّفْعِ إنَّما هو مُجَرَّدُ كَوْنِها مَعَهم - وذَلِكَ لا يَسْتَدْعِي الأمْرَ بِالإسْراءِ بِها حَتّى يَلْزَمَ المُناقَضَةُ لِجَوازِ أنْ تَسْرِيَ هي بِنَفْسِها، كَما يُرْوى أنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمّا أسْرى بِأهْلِهِ تَبِعَتْهم فَلَمّا سَمِعَتْ هَدَّةَ العَذابِ التَفَتَتْ، وقالَتْ: يا قَوْماهُ، فَأدْرَكَها حَجَرٌ فَقَتَلَها، وأنَّ يَسْرِيَ بِها، عَلَيْهِ السَّلامُ، مِن غَيْرِ أمْرٍ بِذَلِكَ إذْ مُوجَبُ النَّصْبِ إنَّما هو عَدَمُ الأمْرِ بِالإسْراءِ بِها لا النَّهْيُ عَنِ الإسْراءِ بِها حَتّى يَكُونَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، بِالإسْراءِ بِها مُخالِفًا لِلنَّهْيِ - لا يُجْدِي نَفْعًا؛ لِأنَّ انْصِرافَ الِاسْتِثْناءِ إلى الِالتِفاتِ يَسْتَدْعِي بَقاءَ الأهْلِ عَلى العُمُومِ، فَيَكُونُ الإسْراءُ بِها مَأْمُورًا بِهِ قَطْعًا، وفي حَمْلِ الأهْلِيَّةِ في إحْدى القِراءَتَيْنِ عَلى الأهْلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، وفي الأُخْرى عَلى النَّسَبِيَّةِ - مَعَ أنَّ فِيهِ ما لا يَخْفي مِنَ التَّحَكُّمِ والِاعْتِسافِ - كَرٌّ عَلى ما فُرَّ مِنهُ مِنَ المُناقَضَةِ، فالأوْلى حِينَئِذٍ جَعْلُ الِاسْتِثْناءِ عَلى القِراءَتَيْنِ مِن قَوْلِهِ: "لا يَلْتَفِتْ" مِثْلَ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: "ما فَعَلُوهُ إلى قَلِيلٌ مِنهُمْ" فَإنَّ ابْنَ عامِرٍ قَرَأهُ بِالنَّصْبِ، وإنْ كانَ الأفْصَحُ الرَّفْعَ عَلى البَدَلِ، ولا بُعْدَ في كَوْنِ أكْثَرِ القُرّاءِ (p-230)عَلى غَيْرِ الأفْصَحِ، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أمْرُها بِالِالتِفاتِ، بَلْ عَدَمُ نَهْيِها عَنْهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْلاحِ، ولِذَلِكَ عَلَّلَهُ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنافِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ مُصِيبُها ما أصابَهُمْ﴾ مِنَ العَذابِ، وهو إمْطارُ الأحْجارِ، وإنْ لَمْ يُصِبْها الخَسْفُ، والضَّمِيرُ في "إنَّهُ" لِلشَّأْنِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "مُصِيبُها" خَبَرٌ، وقَوْلُهُ: "ما أصابَهُمْ" مُبْتَدَأٌ والجُمْلَةُ خَبَرٌ لِـ(إنَّ) الَّذِي اسْمُهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وفِيهِ ما لا يَخْفي مِن تَفْخِيمِ شَأْنِ ما أصابَهُمْ، ولا يَحْسُنُ جَعْلُ الِاسْتِثْناءِ مُنْقَطِعًا عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ ﴿إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ أيْ: مَوْعِدَ عَذابِهِمْ وهَلاكِهِمْ، تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالإسْراءِ والنَّهْيِ عَنِ الِالتِفاتِ المُشْعِرِ بِالحَثِّ عَلى الإسْراعِ ﴿ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ تَأْكِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ؛ فَإنَّ قُرْبَ الصُّبْحِ داعٍ إلى الإسْراعِ في الإسْراءِ لِلتَّباعُدِ عَنْ مَواقِعِ العَذابِ، ورُوِيَ أنَّهُ قالَ لِلْمَلائِكَةِ: مَتى مَوْعِدُ هَلاكِهِمْ؟ قالُوا: الصُّبْحُ، قالَ: أُرِيدُ أسْرَعَ مِن ذَلِكَ، فَقالُوا ذَلِكَ، وإنَّما جُعِلَ مِيقاتُ هَلاكِهِمُ الصُّبْحَ؛ لِأنَّهُ وقْتُ الدَّعَةِ والرّاحَةِ، فَيَكُونُ حُلُولُ العَذابِ حِينَئِذٍ أفْظَعَ؛ ولِأنَّهُ أنْسَبُ بِكَوْنِ ذَلِكَ عِبْرَةً لِلنّاظِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب