الباحث القرآني
﴿ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ يَزْوَرُّونَ عَنِ الحَقِّ ويَنْحَرِفُونَ عَنْهُ، أيْ: يَسْتَمِرُّونَ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوَلِّي والإعْراضِ؛ لِأنَّ مَن أعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ ثَنى عَنْهُ صَدْرَهُ وطَوى عَنْهُ كَشْحَهُ، وهَذا مَعْنًى جَزْلٌ مُناسِبٌ لِما سَبَقَ - وقَدْ نَحا نَحْوَهُ العَلّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ - ولَكِنْ حَيْثُ لَمْ يَصْلُحِ التَّوَلِّي سَبَبًا لِلِاسْتِخْفاءِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ﴾ التَجَأ إلى إضْمارِ الإرادَةِ حَيْثُ قالَ: ويُرِيدُونَ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى فَلا يُطْلِعَ رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ عَلى إعْراضِهِمْ، وجَعْلُهُ في قَوْدِ المَعْنى إلَيْهِ مِن قَبِيلِ الإضْمارِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ أيْ: فَضَرَبَ فانْفَلَقَ، ولا يَخْفي أنَّ انْسِياقَ الذِّهْنِ إلى تَوْسِيطِ الإرادَةِ بَيْنَ ثَنْيِ الصُّدُورِ وبَيْنَ الِاسْتِخْفاءِ لَيْسَ كانْسِياقِهِ إلى تَوْسِيطِ الضَّرْبِ بَيْنَ الأمْرِ بِهِ وبَيْنَ الِانْفِلاقِ، ولَعَلَّ الأظْهَرَ أنَّ مَعْناهُ: يَعْطِفُونَ صُدُورَهم عَلى ما فِيها مِنَ الكُفْرِ والإعْراضِ عَنِ الحَقِّ وعَداوَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ مَخْفِيًّا مَسْتُورًا فِيها، كَما تُعْطَفُ الثِّيابُ عَلى ما فِيها مِنَ الأشْياءِ المَسْتُورَةِ، وإنَّما لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ اسْتِهْجانًا بِذِكْرِهِ، أوْ إيماءً إلى أنَّ ظُهُورَهُ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهِ، أوْ لِيَذْهَبَ ذِهْنُ السّامِعِ إلى كُلِّ ما لا خَيْرَ فِيهِ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ ما ذُكِرَ مِن تَوَلِّيهِمْ عَنِ الحَقِّ الَّذِي أُلْقِيَ إلَيْهِمْ دُخُولًا أوَّلِيًّا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ وجْهُ كَوْنِ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِاسْتِخْفاءِ.
وَيُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّها نَزَلَتْ في الأخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وكانَ رَجُلًا حُلْوَ المَنطِقِ حَسَنَ السِّياقِ لِلْحَدِيثِ، يُظْهِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ المَحَبَّةَ، ويُضْمِرُ في قَلْبِهِ ما يُضادُّها.
وَقالَ ابْنُ شَدّادٍ: إنَّها نَزَلَتْ في بَعْضِ المُنافِقِينَ، كانَ إذا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَنى صَدْرَهُ وظَهْرَهُ، وطَأْطَأ رَأْسَهُ، وغَطّى وجْهَهُ كَيْلا يَراهُ النَّبِيُّ ﷺ فَكَأنَّهُ إنَّما كانَ يَصْنَعُ ما يَصْنَعُ؛ لِأنَّهُ لَوْ رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّخَلُّفُ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِهِ والمُصاحَبَةِ مَعَهُ، ورُبَّما يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى ظُهُورِ ما في قَلْبِهِ مِنَ الكُفْرِ والنِّفاقِ، وقُرِئَ (يَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) بِالياءِ والتّاءِ مِنِ اثْنَوْنى افْعَوْعَلَ مِنَ الثَّنْيِ كاحْلَوْلى مِنَ الحَلاوَةِ، وهو بِناءُ مُبالَغَةٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - لِتَثْنُونِي، وقُرِئَ (تَثْنُونَ) وأصْلُهُ تَثْنُونَنِ مِن تَفْعَوْعِلُ مِنَ الثَّنِّ، وهو ما هَشَّ مِنَ الكَلَأِ وضَعُفَ، يُرِيدُ مُطاوَعَةَ صُدُرُوهِمْ لِلثَّنْيِ، كَما يُثْنى الهَشُّ مِنَ النَّباتِ، أوْ أرادَ ضَعْفَ إيمانِهِمْ ورَخاوَةَ قُلُوبِهِمْ، وقُرِئَ (تَثْنُنَّ) مِنِ اثْنانَّ افْعالَّ مِنهُ، ثُمَّ هُمِزَ كَما قِيلَ: ابْيَأضَّتْ وادْهَأمَّتْ، وقُرِئَ (تَثْنَوِي) بِوَزْنِ تَرْعَوِي.
﴿ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ﴾ أيْ: يَتَغَطَّوْنَ بِها لِلِاسْتِخْفاءِ عَلى ما نُقِلَ عَنِ ابْنِ شَدّادٍ، أوْ حِينَ يَأْوُونَ إلى فِراشِهِمْ ويَتَدَثَّرُونَ بِثِيابِهِمْ، فَإنَّ ما يَقَعُ حِينَئِذٍ حَدِيثُ النَّفْسِ عادَةً، وقِيلَ: كانَ الرَّجُلُ مِنَ الكُفّارِ يَدْخُلُ بَيْتَهُ ويُرْخِي سِتْرَهُ ويُحْيِي ظَهْرَهُ (p-186)وَيَتَغَشّى بِثَوْبِهِ، ويَقُولُ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ ما في قَلْبِي؟
﴿يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ﴾ أيْ: يُضْمِرُونَ في قُلُوبِهِمْ ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾ أيْ: يَسْتَوِي بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِهِ المُحِيطِ سِرُّهم وعَلَنُهُمْ، فَكَيْفَ يَخْفي عَلَيْهِ ما عَسى يُظْهِرُونَهُ؟! وإنَّما قُدِّمَ السِّرُّ عَلى العَلَنِ؛ نَعْيًا عَلَيْهِمْ مِن أوَّلِ الأمْرِ ما صَنَعُوا، وإيذانًا بِافْتِضاحِهِمْ، ووُقُوعِ ما يَحْذَرُونَهُ، وتَحْقِيقًا لِلْمُساواةِ بَيْنَ العِلْمَيْنِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، فَكَأنَّ عِلْمَهُ بِما يُسِرُّونَهُ أقْدَمُ مِنهُ بِما يُعْلِنُونَهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ حَيْثُ قُدِّمَ فِيهِ الإخْفاءُ عَلى الإبْداءِ عَلى عَكْسِ ما وقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإشْعارِ أنَّ المُحاسَبَةَ بِما يُخْفُونَهُ أوْلى مِنها بِما يُبْدُونَهُ غَرَضٌ، بَلِ الأمْرُ بِالعَكْسِ، وأمّا هَهُنا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِإشْعارِ كَوْنِ تَعَلُّقِ علمه تعالى بِما يُسِرُّونَهُ أوْلى مِنهُ بِما يُعْلِنُونَهُ - غَرَضٌ مُهِمٌّ، مَعَ كَوْنِهِما عَلى السَّوِيَّةِ، كَيْفَ لا وعلمه تعالى بِمَعْلُوماتِهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ حُصُولِ الصُّورَةِ بَلْ وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ في نَفْسِهِ عِلْمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعالى، وفي هَذا المَعْنى لا يَخْتَلِفُ الحالُ بَيْنَ الأشْياءِ البارِزَةِ والكامِنَةِ.
وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فَحَيْثُ كانَ وارِدًا بِصَدَدِ الخِطابِ مَعَ المَلائِكَةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - المُنَزَّهِ مَقامُهم عَنِ اقْتِضاءِ التَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ في الإخْبارِ بِإحاطَةِ علمه تعالى بِالظّاهِرِ والباطِنِ - لَمْ يُسْلَكْ فِيهِ ذَلِكَ المَسْلَكُ، مَعَ أنَّهُ وقَعَ الغُنْيَةُ عَنْهُ بِما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبارِ أنَّ مَرْتَبَةَ السِّرِّ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى مَرْتَبَةِ العَلَنِ، إذْ ما مِن شَيْءٍ يُعْلَنُ إلّا وهو أوْ مَبادِؤُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مُضْمَرٌ في القَلْبِ، فَتَعَلُّقُ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِحالَتِهِ الأُولى مُتَقَدِّمٌ عَلى تَعَلُّقِهِ بِحالَتِهِ الثّانِيَةِ.
﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ تَعْلِيلٌ لِما سَبَقَ وتَقْرِيرٌ لَهُ واقِعٌ مَوْقِعَ الكُبْرى مِنَ القِياسِ، وفي صِيغَةِ الفَعِيلِ، وتَحْلِيَةِ الصُّدُورِ بِلامِ الِاسْتِغْراقِ، والتَّعْبِيرِ عَنِ الضَّمائِرِ بِعُنْوانِ صاحِبَيْها مِنَ البَراعَةِ ما لا يَصِفُهُ الواصِفُونَ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ مُبالِغٌ في الإحاطَةِ بِمُضْمَراتِ جَمِيعِ النّاسِ وأسْرارِهِمُ الخَفِيَّةِ المُسْتَكِنَّةِ في صُدُورِهِمْ بِحَيْثُ لا تُفارِقُها أصْلًا، فَكَيْفَ يَخْفي عَلَيْهِ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ؟ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِذاتِ الصُّدُورِ القُلُوبُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ والمَعْنى أنَّهُ عَلِيمٌ بِالقُلُوبِ وأحْوالِها، فَلا يَخْفي عَلَيْهِ سِرٌّ مِن أسْرارِها.
{"ayah":"أَلَاۤ إِنَّهُمۡ یَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِیَسۡتَخۡفُوا۟ مِنۡهُۚ أَلَا حِینَ یَسۡتَغۡشُونَ ثِیَابَهُمۡ یَعۡلَمُ مَا یُسِرُّونَ وَمَا یُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق