الباحث القرآني

﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الأمْرُ بِالرُّكُوبِ، أيْ: فَرَكِبُوا فِيها مُسَمِّينَ، وهي تَجْرِي مُلْتَبِسَةً لَهم ﴿فِي مَوْجٍ (p-210)كالجِبالِ﴾ وهو ما ارْتَفَعَ مِنَ الماءِ عِنْدَ اضْطِرابِهِ، كُلُّ مَوْجَةٍ مِن ذَلِكَ كَجَبَلٍ في ارْتِفاعِها وتَراكُمِها، وما قِيلَ مِن أنَّ الماءَ طَبَّقَ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وكانَتِ السَّفِينَةُ تَجْرِي في جَوْفِهِ كالحُوتِ - فَغَيْرُ ثابِتٍ، والمَشْهُورُ أنَّهُ عَلا شَوامِخَ الجِبالِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِراعًا، أوْ أرْبَعِينَ ذِراعًا، ولَئِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهَذا الجَرَيانُ إنَّما هو قَبْلَ أنْ يَتَفاقَمَ الخَطْبُ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ فَإنَّ ذَلِكَ إنَّما يُتَصَوَّرُ قَبْلَ أنْ تَنْقَطِعَ العَلاقَةُ بَيْنَ السَّفِينَةِ والبَرِّ، إذْ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ جَرَيانُ ما جَرى بَيْنَ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وبَيْنَ ابْنِهِ مِنَ المُفاوَضَةِ بِالِاسْتِدْعاءِ إلى السَّفِينَةِ والجَوابِ بِالِاعْتِصامِ بِالجَبَلِ، وقُرِئَ (ابْنَها وابْنَهُ) بِحَذْفِ الألِفِ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِامْرَأتِهِ وكانَ رَبِيبَهُ، وما يُقالُ مِن أنَّهُ كانَ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَخانَتاهُما﴾ فارْتِكابُ عَظِيمَةٍ لا يُقادَرُ قَدْرُها، فَإنَّ جَنابَ الأنْبِياءِ - صَلَواتُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ وسَلامُهُ - أرْفَعُ مِن أنْ يُشارَ إلَيْهِ بِأُصْبَعِ الطَّعْنِ، وإنَّما المُرادُ بِالخِيانَةِ الخِيانَةُ في الدِّينِ، وقُرِئَ (ابْناهْ) عَلى النُّدْبَةِ، ولِكَوْنِها حِكايَةً سُوِّغَ حَذْفُ حَرْفِها، وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّهُ لا يُلائِمُهُ الِاسْتِدْعاءُ إلى السَّفِينَةِ، فَإنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّهُ لَمْ يَقَعْ في حَياتِهِ يَأْسٌ بَعْدُ ﴿وَكانَ في مَعْزِلٍ﴾ أيْ: مَكانٍ عَزَلَ فِيهِ نَفْسَهُ عَنْ أبِيهِ وإخْوَتِهِ وقَوْمِهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَناوَلْهُ الخِطابُ بِارْكَبُوا، واحْتاجَ إلى النِّداءِ المَذْكُورِ، وقِيلَ: في مَعْزِلٍ عَنِ الكُفّارِ، قَدِ انْفَرَدَ عَنْهُمْ، وظَنَّ نُوحٌ أنَّهُ يُرِيدُ مُفارَقَتَهُمْ، ولِذَلِكَ دَعاهُ إلى السَّفِينَةِ، وقِيلَ: كانَ يُنافِقُ أباهُ فَظَنَّ أنَّهُ مُؤْمِنٌ، وقِيلَ: كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ كافِرٌ إلى ذَلِكَ الوَقْتِ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ظَنَّ أنَّهُ عِنْدَ مُشاهَدَةِ تِلْكَ الأهْوالِ يَنْزَجِرُ عَمّا كانَ عَلَيْهِ، ويَقْبَلُ الإيمانَ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ﴾ نَصًّا في كَوْنِ ابْنِهِ داخِلًا تَحْتَهُ، بَلْ كانَ كالمُجْمَلِ فَحَمَلَتْهُ شَفَقَةُ الأُبُوَّةِ عَلى ذَلِكَ. ﴿يا بُنَيَّ﴾ بِفَتْحِ الياءِ اقْتِصارًا عَلَيْهِ مِنَ الألِفِ المُبْدَلَةِ مِن ياءِ الإضافَةِ في قَوْلِكَ: يا بَنِيًّا، وقُرِئَ بِكَسْرِ الياءِ اقْتِصارًا عَلَيْهِ مِن ياءِ الإضافَةِ، أوْ سَقَطَتِ الياءُ والألِفُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ؛ لِأنَّ الرّاءَ بَعْدَهُما ساكِنَةٌ. ﴿ارْكَبْ مَعَنا﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ بِإدْغامِ الباءِ في المِيمِ لِتَقارُبِهِما في المَخْرِجِ، وإنَّما أُطْلِقَ الرُّكُوبُ عَنْ ذِكْرِ الفُلْكِ لِتُعِينَها ولِلْإيذانِ بِضِيقِ المَقامِ، حَيْثُ حالَ الجَرِيضُ دُونَ القَرِيضِ مَعَ إغْناءِ المَعِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ ﴿وَلا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ﴾ أيْ: في المَكانِ، وهو وجْهُ الأرْضِ خارِجَ الفُلْكِ لا في الدِّينِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُهُ كَما يُوجِبُ رُكُوبُهُ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَوْنَهُ مَعَهُ في الإيمانِ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِصَدَدِ التَّحْذِيرِ عَنِ الهَلَكَةِ فَلا يُلائِمُهُ النَّهْيُ عَنِ الكُفْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب