الباحث القرآني

﴿قالَ يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ﴾ أيْ: أخْبِرُونِي، وفِيهِ إيماءٌ إلى رَكاكَةِ رَأْيِهِمُ المَذْكُورِ ﴿إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ بُرْهانٍ ظاهِرٍ ﴿مِن رَبِّي﴾ وشاهِدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دَعْوايَ ﴿وَآتانِي رَحْمَةً مِن عِنْدِهِ﴾ هي النُّبُوَّةُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هي البَيِّنَةَ نَفْسَها جِيءَ بِها إيذانًا بِأنَّها مَعَ كَوْنِها بَيِّنَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى رَحْمَةٌ ونِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِن عِنْدِهِ، فَوَجْهُ إفْرادِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ حِينَئِذٍ ظاهِرٌ، وإنْ أُرِيدَ بِها النُّبُوَّةُ وبِالبَيِّنَةِ البُرْهانُ الدّالُّ عَلى صِحَّتِها، فالإفْرادُ لِإرادَةِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما، أوْ لِكَوْنِ الضَّمِيرِ لِلْبَيِّنَةِ والِاكْتِفاءِ بِذَلِكَ لِاسْتِلْزامِ خَفائِها خَفاءَ النُّبُوَّةِ، أوْ لِتَقْدِيرِ فِعْلٍ آخَرَ بَعْدَ البَيِّنَةِ، ومَعْنى: عُمِّيَتْ أُخْفِيَتْ، وقُرِئَ (عَمِيَتْ) ومَعْناهُ: خَفِيَتْ، وحَقِيقَتُهُ أنَّ الحُجَّةَ كَما تُجْعَلُ مُبْصِرَةً وبَصِيرَةً تُجْعَلُ عَمْياءَ؛ لِأنَّ الأعْمى لا يَهْتَدِي ولا يَهْدِي غَيْرَهُ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: (فَعَمّاها عَلَيْكُمْ) عَلى الإسْنادِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أنُلْزِمُكُمُوها﴾ أيْ: أنُكْرِهُكم عَلى الِاهْتِداءِ بِها، وهو جَوابُ (أرَأيْتُمْ) وسادٌّ مَسَدَّ جَوابِ الشَّرْطِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِإخْفاءِ حَرَكَةِ المِيمِ، وحَيْثُ اجْتَمَعَ ضَمِيرانِ مَنصُوبانِ - وقَدْ قُدِّمَ أعْرَفُهُما - جازَ في الثّانِي الوَصْلُ والفَصْلُ، فَوُصِلَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾، ﴿وَأنْتُمْ لَها كارِهُونَ﴾ تَخْتارُونَها ولا تَتَأمَّلُونَ فِيها، ومَحْصُولُ الجَوابِ: أخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ عَلى حُجَّةٍ ظاهِرَةٍ الدَّلالَةِ عَلى صِحَّةِ دَعْوايَ، إلّا أنَّها خافِيَةٌ عَلَيْكُمْ، مُسَلَّمَةٌ عِنْدَكُمْ، أيُمْكِنُنا أنْ نُكْرِهَكم عَلى قَبُولِها وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْها غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ فِيها، أيْ: لا يَكُونُ ذَلِكَ، وظاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِصُدُورِهِ عَنْهُ ﷺ بِطَرِيقِ إظْهارِ اليَأْسِ عَنْ إلْزامِهِمْ والقُعُودِ عَنْ مُحاجَّتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا يَنْفَعُكم نُصْحِي﴾ ... إلَخْ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى أنَّ مُرادَهُ ﷺ رَدُّهم عَنِ الإعْراضِ عَنْها، وحَثُّهم عَلى التَّدَبُّرِ فِيها بِصَرْفِ الإنْكارِ إلى الإلْزامِ حالَ كَراهَتِهِمْ لَها لا إلى الإلْزامِ مُطْلَقًا. هَذا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالبَيِّنَةِ دَلِيلَ العَقْلِ الَّذِي هو مَلاكُ الفَضْلِ، وبِحَسَبِهِ يَمْتازُ أفْرادُ البَشَرِ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، وبِهِ يُناطُ الكَرامَةُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - والِاجْتِباءُ لِلرِّسالَةِ، وبِالكَوْنِ عَلَيْها التَّمَسُّكُ بِهِ والثَّباتُ (p-202)عَلَيْهِ، وبِخَفائِها عَلى الكَفَرَةِ، عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلْبَيِّنَةِ عَدَمُ إدْراكِهِمْ لِكَوْنِهِ ﷺ عَلَيْها، وبِالرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ الَّتِي أنْكَرُوا اخْتِصاصَهُ ﷺ بِها بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، والمَعْنى أنَّكم زَعَمْتُمْ أنَّ عَهْدَ النُّبُوَّةِ لا يَنالُهُ إلّا مِن لَهُ فَضِيلَةٌ عَلى سائِرِ النّاسِ مُسْتَتْبِعَةٌ لِاخْتِصاصِهِ بِهِ دُونَهُمْ، أخْبِرُونِي إنِ امْتَزْتُ عَنْكم بِزِيادَةِ مَزِيَّةٍ وحِيازَةِ فَضِيلَةٍ مِن رَبِّي وآتانِي بِحَسَبِها نُبُوَّةً مِن عِنْدِهِ فَخَفِيَتْ عَلَيْكم تِلْكَ البَيِّنَةُ، ولَمْ تُصِيبُوها، ولَمْ تَنالُوها، ولَمْ تَعْلَمُوا حِيازَتِي لَها وكَوْنِي عَلَيْها إلى الآنِ، حَتّى زَعَمْتُمْ أنِّي مِثْلُكُمْ، وهي مُتَحَقِّقَةٌ في نَفْسِها أنُلْزِمُكم قَبُولَ نُبُوَّتِي التّابِعَةِ لَها، والحالُ أنَّكم كارِهُونَ لِذَلِكَ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهامُ لِلْحَمْلِ عَلى الإقْرارِ، وهو الأنْسَبُ بِمَقامِ المُحاجَّةِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ كَلامُهُ ﷺ جَوابًا عَنْ شُبَهِهِمُ الَّتِي أدْرَجُوها في خِلالِ مَقالِهِمْ مِن كَوْنِهِ - ﷺ – بَشَرًا، قُصارى أمْرِهِ أنْ يَكُونَ مِثْلَهم مِن غَيْرِ فَضْلٍ لَهُ عَلَيْهِمْ، وقَطْعًا لِشَأْفَةِ آرائِهِمُ الرَّكِيكَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب